إشعاعات وهمية في عتمة الوحدة
تنساب الكلمات على شفا المساء كما يتسلل الضباب إلى الأفق، حيث تلتقي الأضواء الزرقاء المتوهجة من الشاشات مع خفوت النجوم في سماء الليل، فيخلق هذا التلاقي لحظة من الحزن الصامت. كانت الأرواح، في زمن مضى، تتنفس دفء اللقاءات، وكان صوت الهمسات، التي تملأ الأركان، يُنقش في الذكريات كحكايات لا تُروى إلا بأعين معبأة بالحب. كانت النظرات هي اللغة، وكانت القلوب تعبر عن نفسها بأبسط الحركات، حين كان اللقاء أكثر من مجرد تقاطع أجساد. كان اللقاء هو الوجود ذاته، وهو الأمل المضيء في نهاية يوم.
أما اليوم، فها هو الوصال يتحول إلى نبضات صامتة، تتحول الكلمات إلى حروف تُرسل عبر شاشات زجاجية، لا تحمل سوى الإشعارات والانتظار الطويل. نحن نكتب الحروف، نرسل الصور، ننتظر الردود، ننتظر الحياة التي كانت يومًا تملأ الفضاء بأصواتها وحركاتها. لكن، أين ذاك النبض الحي الذي كان يثري القلوب؟ أين تلك النظرات التي كانت تشق الظلام وتكشف عما وراء الكلمات؟
تتراقص الأصابع على شاشات الزجاج، تبني جسورًا من وهم، وتغرق في الأرض فجوات من عزلة تتسع في كل يوم. نعتقد أننا اقتربنا، أن المسافات قد اختفت، لكننا لا نزال في أماكننا، يحيط بنا الفراغ الذي لا يمكن للاتصال الرقمي أن يملأه. أرواحنا تظل تبحث عن دفء اللقاء، عن حديث العينين الذي لا يترجم بالكلمات، عن صدى الضحكات الحية التي تتردد في الأفق مثل ألحان قديمة لا تنتهي.
في هذا العالم الجديد، أصبحت العلاقات مثل خيوط العنكبوت، تبدو قوية، لكنها هشة. هشة بما يكفي لتنكسر مع أول ريح تهاجمها، ومع أول لحظة من الوحدة التي تقتحمها. نحن هنا، ولكننا بعيدون. نجلس معًا، لكن كل واحد منا غارق في عالمه، في صومعته الإلكترونية التي تجعلنا نعيش في دوامة من العزلة. نحن قريبون من بعضنا، ولكن البعد بيننا أكثر من أي وقت مضى.
يا ترى، هل سنعود يومًا إلى ما كنا عليه؟ هل ستعود القلوب إلى ينبوعها الأول، ينبوع اللقاءات التي لا تُقاس بالكلمات؟ أم أن أرواحنا ستظل تتوق إلى ذلك العناق الذي لا يمكن لأي رقم أن يبلغه؟