الشمعة الأخيرة
أحد الأحياء القديمة وسط تونس، كان الليل قد أرخى سدوله، وغمرت الحومة بسكون متقطع، إلا من أصوات خافتة تأتي من بيت صغير يضجّ بالحياة رغم انطفاء الكهرباء. في الداخل، جلست أمينة، أرملة خمسينية، حول شمعة بالكاد تضيء أركان الغرفة، ومعها ابنها رضا، شاب في العشرينات، يملأ عينيه بريق الطموح رغم ثقل الظروف.
كانت أمينة ترتق ثوبًا قديمًا، في حين كان رضا يكتب شيئًا على ورقة أمامه. سألته بنبرة دافئة:
“شنوة اللي تكتب فيه يا وليدي؟”
ابتسم رضا دون أن يرفع عينيه عن الورقة وقال:
“مشروع صغير يا أمي. فكرة جديدة باش نبدّل بيها حياتنا. ما عادش نحب نخلي الظلام هذا يحكم فينا.”
تنهدت أمينة ومسحت على رأسه بحنان، وقالت:
“ربي يفتحها عليك يا نور عيوني. أما الحومة تبدّلت، والناس ولّت تاكل بعضها، وإحنا بالسيف قاعدين نعيشو.”
قطع حديثهما طرق خفيف على الباب. كان الجار عمي المنصف، رجل في الستين من عمره، يحمل معه طبقًا صغيرًا من “الكسكسي العراسي”.
“عالسلامة يا جماعة الخير. قلت نجيب حاجة سخونة تتعشّى بيها أمينة ورضا. الدنيا صعيبة علينا الكل، وما حد يستغنى على الآخر.”
ابتسمت أمينة وقالت:
“ربي يخليك يا عمي المنصف. الناس اللي كيفك هم اللي باقيين ينوروا الظلمة هذي.”
جلس عمي المنصف معهما بجانب الشمعة، وبدأ يتحدث عن أيامه القديمة، عن زمن كانت فيه الحومة عائلة واحدة، وعن كيف كان الحوش يضج بضحكات الصغار وصوت طبلات المراة وهي تغزل.
“أما توا، الناس تفرّقت، والخوف ولا هو اللي يحكم. الثورة كانت شمعة، أما الشمعة هذيكة نحنا اللي لازم نزيدوها زيت.”
رفع رضا رأسه، وقد لمع في عينيه بريق الإصرار، وقال:
“عمي المنصف، الثورة ما انتهتش، الثورة تبدأ فينا… في صمودنا، في أفكارنا، وفي كيفاش نرفضوا نستسلموا.”
نظر إليه الرجل مبتسمًا، وقال:
“كلامك صحيح يا ولدي. الشمعة كي تذوب، حد لازم يشعل شمعة جديدة.”
وفي تلك اللحظة، انطفأت الشمعة الوحيدة التي كانت تنير الغرفة. نهض رضا بابتسامة هادئة، وقال:
“ما تخافوش. الظلام عمره ما يدوم. أنا باش نشعل شمعة جديدة، ونضوي بيها طريقنا.”
خرج رضا في اليوم التالي حاملاً فكرته البسيطة، مشروع صغير لصنع مصابيح تعمل بالطاقة الشمسية من مواد معاد تدويرها. لم يكن يملك سوى الإيمان بقدراته، لكن مع كل مصباح أنجزه، كان ينير به زوايا الحومة رويدًا رويدًا.
وفي المساء، كانت أمينة تجلس بجوار عمي المنصف في ضوء مصباح صنعه رضا، بينما يردد الرجل بصوت خافت:
“اللي يصبر على الظلام، هو اللي يعرف كيفاش يصنع النور.”