جميع الحقوق محفوظة لعماد إيلاهي. يُمنع نسخ أو إعادة نشر أي جزء من هذا الموقع بأي وسيلة دون إذن كتابي مسبق.

شوارع لا ترى الشمس

كانت تونس العاصمة في الصباح كما هي دائمًا، مدينة مشغولة بالنشاط، ضجيج السيارات، ووجوه غريبة تتدافع على الأرصفة الضيقة التي احتلت اغلبها كراسي المقاهي، لكن في الزوايا المنسية من المدينة كانت هناك حياة أخرى، حياة لا يراها معظم الناس. لم تكن تلك الأحياء الفقيرة بعيدة عن أعين الناظرين، لكنهم اختاروا أن يغضوا الطرف عنها، لا لأنها غير موجودة، بل لأنها تفضحهم وتكشف عن عيوب المدينة.

أمينة، شابة في الخامسة والعشرين، تخرج كل يوم إلى شارع “الدوار”، الحي الذي كانت تسكن فيه، ولا تغادره إلا عندما اذا احمرت الشمس معلنة عن اقتراب المغيب. حلمت كثيرًا أن تكون شيئًا مختلفًا، أن تكون مثل الفتيات اللواتي يركبن السيارات الفاخرة ويتسكعن في الكافيهات. لكن حلمها كان يبدو بعيدًا، وكان الفقر يلاحقها من كل جانب. منذ وفاة والدها، كانت هي المعيلة الوحيدة لعائلتها المكونة من أم مريضة وأخ مراهق.

لكن أمينة كانت تعلم جيدًا أن الحظ ليس في صالحها، وأن أي فرصة يمكن أن تغير حياتها يجب أن تأتي سريعًا قبل أن تبتلعها المدينة بالكامل. وفي صباح يوم عادي، بينما كانت تبيع بعض الملابس المستعملة على الرصيف، اقترب منها شاب طويل القامة يرتدي بدلة غالية ويحمل حقيبة فاخرة.

“مرحبًا، أريد منكِ مساعدتي في شيء ما”، خاطبها الشاب وهو ينظر إليها بنظرة لا تحمل أي تعاطف.

كانت أمينة قد اعتادت على هذا النوع من اللقاءات في الشارع. الكثير من الناس يتوقفون عند الأكشاك الصغيرة المنتشرة على الأرصفة، ويلقون نظرات سريعة على ما تعرضه من ملابس وأحذية مستعملة، قبل أن يواصلوا طريقهم. لكن هذا الشاب كان مختلفًا. لم يكن مجرد زبون عابر، بل كان يحمل في عينيه شيئًا غير واضح، نوع من التحدي أو ربما رغبة في المساعدة.

“ما الذي يمكنني مساعدتك فيه؟” سألته أمينة بتردد، رغم أنها لم تكن تتوقع منه طلبًا جادًا. قد تكون مجرد مزحة أو حديثًا عابرًا، كما اعتادت.

ابتسم الشاب بلطف، ثم أضاف، “أنا بحاجة إلى شخص يمكنه مساعدتي في مشروع صغير. مشروع سيتطلب منك بعض الوقت، ولكن أعدك أن المكافأة ستكون جيدة.”

درست أمينة ملامحه لبضع لحظات. كان يبدو شابًا ناجحًا، ملابسه أنيقة وأسلوبه في الكلام يدل على أنه ينتمي إلى طبقة اجتماعية مميزة. لكن في قلبها، كان هناك شك. كم مرة سمعنا عن وعود براقة انتهت بخيبة أمل؟ لكنها في نفس الوقت كانت تعرف أن أي فرصة قد تكون هي الفرصة التي كانت تنتظرها.

“ما نوع المشروع؟” سألته أمينة، وهي تحاول أن تبدو أكثر اهتمامًا.

“ليس مشروعًا كبيرًا. فقط بعض الأعمال المكتبية البسيطة، ولكن أحتاج إلى شخص لديه القدرة على العمل بجد وألا يكون خائفًا من التحديات.”

لم تكن أمينة بحاجة إلى التفكير طويلًا. العائلة بحاجة إلى المال، وكانت فكرة العمل في مكتب، مهما كان بسيطًا، تبدو أفضل من بيع الملابس المستعملة على الرصيف. “حسنًا، أنا مستعدة للمساعدة. كيف يمكننا البدء؟”

“سأرسل لك التفاصيل لاحقًا”، قال الشاب وهو يبتسم بخفة. “لكن يجب أن تكوني جاهزة للعمل في الأيام القادمة. سنبدأ قريبًا جدًا.”

ومع تلك الكلمات، ابتعد الشاب عن المكان، تاركًا أمينة تفكر في ما سيحدث بعد ذلك. كانت هناك فكرة صغيرة تدور في ذهنها؛ ربما يكون هذا هو التغيير الذي طالما انتظرته.

مرت الأيام ببطء، وأمينة كانت تعيش على أمل أن تحقق الحلم الذي طالما راودها. في اليوم التالي، وصلت رسالة من الشاب تحمل التفاصيل المطلوبة: “أنتِ مدعوة للعمل في أحد مكاتبنا، ستكونين مسؤولة عن بعض الأعمال المكتبية البسيطة. يمكنك الحضور غدًا الساعة التاسعة.”

في صباح اليوم التالي، استعدت أمينة كما لو كانت تذهب إلى مناسبة مهمة. ارتدت أفضل ما لديها، وهو فستان قديم ولكن مرتب، ومشيت بسرعة نحو العنوان الذي ذكره الشاب. على الرغم من أنها كانت تشعر بالتوتر، إلا أن شيئًا في قلبها كان ينبئها أن هذا اللقاء سيغير حياتها.

وصلت إلى المبنى، وكان فخمًا جدًا مقارنة بكل ما اعتادت عليه. دخلت فتاهت عيناها على كل زاوية، تبحث عن أي شخص يبدو أنه قد يساعدها. ثم ظهرت الفتاة التي سلمتها بطاقة العمل، وأخذتها إلى مكتب الشاب الذي قابلته في الشارع.

“أهلاً بكِ أمينة”، قال الشاب مبتسمًا، بينما كانت أمينة تجلس على المقعد المقابل له. “سأكون مشرفًا على عملك هنا. أنتِ هنا لأنني أرى فيكِ شيئًا مميزًا. مشروعنا بسيط، لكنني أريد أن أرى كيف ستتكيفين مع هذا النوع من البيئة.”

كل شيء كان يبدو مرتبًا في هذا المكتب الفاخر، لكن في نفس الوقت، أمينة كانت تشعر بأنها لا تنتمي إليه. هؤلاء الأشخاص يرتدون ملابس أنيقة، يتحدثون عن مشاريع وتجارات كبيرة، في حين أنها، رغم تعبها، ما زالت تحمل بداخلها ذلك الحلم الصغير: الهروب من الواقع.

مرت الأيام في العمل، وكلما كانت أمينة تذهب إلى المكتب، كلما شعرت بالمزيد من الغربة. كانت تجد نفسها تجلس في وسط الحوارات عن الاستثمارات والأعمال التجارية، بينما قلبها لا يزال في شارع “الدوار” حيث العائلات تكافح من أجل لقمة العيش. في مكتب الشاب، كان كل شيء سلسًا ومتقنًا، لكن الواقع في الشارع كان صعبًا ويومًا بعد يوم كان يضغط عليها أكثر.

ذات مساء، بينما كانت أمينة تمشي في طريقها إلى المنزل بعد يوم طويل، رأت أحد الأطفال الذين تعرفهم من الحي. كان يبيع السجائر المقلدة على الرصيف. نظر إليها بعيون حزينة وقال: “أمينة، هل ستساعدينني؟ ليس لدي مال لأشتري الطعام اليوم.”

شعرت أمينة بشيء غريب يجذبها نحو هذا الطفل، وجدت نفسها تفكر في الحياة التي يواجهها، في الواقع المظلم الذي يعيش فيه، وفي الوقت الذي تقضيه بعيدًا عن هؤلاء الذين يعانون مثلها. كانت الحياة في المكتب تبتعد بها عن هذا الواقع، وكلما ابتعدت، شعرت بأنها تخون أولئك الذين ينتظرونها في الشوارع التي لا ترى الشمس.

في اليوم التالي، عندما ذهبت إلى المكتب، واجهت الشاب وقالت له: “أنا آسفة، لا أستطيع الاستمرار هنا. هذا ليس ما أريد. هذه ليس حياتي.”

نظر إليها الشاب بدهشة، لكنه لم يعلق. أمينة كانت قد اختارت أن تكون مع الناس الذين يحتاجونها، مع أولئك الذين يعيشون في الشوارع المظلمة التي لا ترى الشمس.

لم يكن تغييرًا كبيرًا في حياتها، لكن بالنسبة لأمينة، كان هذا القرار هو الخطوة الأولى نحو فهم الحياة بطريقة أعمق. لم تكن بحاجة إلى الخروج من حيها أو تغيير ملابسها لتكون مختلفة، بل كانت بحاجة فقط إلى العودة إلى المكان الذي ينتمي إليه قلبها.

Shares:
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *