Contents
- 1 مدخل تمهيدي: من يستمع إلى همس الطفولة؟
- 2 الاعتراف القانوني والمؤسسي: طفولةٌ تحت رعاية الجمهورية… أم على هامشها؟
- 3 فلسفة التعليم قبل المدرسي: من اللعب باعتباره معرفة… إلى التلقين باعتباره استعدادًا
- 4 وظيفة المدرسة الاجتماعية: من بناء الانتماء إلى غياب الإحساس بالجماعة
- 5 التشخيص العام لحالة التعليم المبكر في تونس: بين الغياب والارتباك
- 6 البدائل المقترحة: نحو مدرسة تونسية متكاملة للطفولة المبكرة
- 7 خاتمة: إلى من يقرأ، رسالة من حضن الطفولة
- 8 قائمة المصادر والمراجع:
من رياض الأطفال إلى المدرسة التونسية الأولى: هل نتعلم من النموذج الفرنسي؟
مدخل تمهيدي: من يستمع إلى همس الطفولة؟

في زوايا كثيرة من الجمهورية، يتردد صدى الطفولة خافتًا، كأنّه نداء منسيّ في زحمة البرامج والموازنات والخرائط الوزارية. طفلٌ في عامه الثالث، يجلس على كرسيّ مرتفع عن قامته، يلوّن ورقة لا تعنيه، تحت إشراف مربية تفتقر للتكوين، في فضاء يُسمّى مجازًا “روضة”.
هناك، في تلك المرحلة التأسيسية التي يُفترض أن تكون المهد الأول للمواطنة والانفتاح والحس الجمالي، نكتشف أن التعليم قبل المدرسي في تونس لم يُمنح بعد مكانته الطبيعية كمدخل حاسم لبناء الفرد والمجتمع.
يتوزع هذا القطاع بين فضاءات خاصة ذات توجهات متباينة، وأخرى غير مهيكلة، تنشط في الهامش دون تأطير بيداغوجي ولا رؤية وطنية واضحة. أما الدولة، فقد بقي حضورها باهتًا، يُراوح بين المبادرات المناسبة وبين الغياب الاستراتيجي.
في المقابل، يُمكن للعين أن تستأنس بنموذج مختلف: التجربة الفرنسية في التعليم ما قبل المدرسي، حيث تُدرج المدرسة maternelle ضمن المنظومة الرسمية، وتُبنى فلسفتها على اللعب، واللغة، والتنشئة الاجتماعية، في إطار قانوني صارم، ومرجعية بيداغوجية مهيكلة.
فهل آن الأوان لنُعيد صياغة علاقتنا بالطفولة، لا بوصفها مرحلة عابرة، بل كأصل كل إصلاح؟
وهل نملك الجرأة لننظر إلى تجارب الآخرين، لا لنقلّدها، بل لنستنير بها في بناء رؤية تونسية أصيلة؟
الاعتراف القانوني والمؤسسي: طفولةٌ تحت رعاية الجمهورية… أم على هامشها؟

في فرنسا، لم تعد المدرسة maternelle مجرّد فضاء تربوي ثانوي، بل أصبحت منذ سنة 2019 مكونًا إلزاميًا ومهيكلاً ضمن المنظومة التربوية الرسمية، يبدأ من سن الثالثة، وتُشرف عليه وزارة التربية الوطنية بنفس الصرامة التي تُشرف بها على باقي المراحل التعليمية. إنها المدرسة الأولى بكل ما تحمله الكلمة من معنى: مكان للتكوين، لا للحراسة؛ للبناء التربوي، لا للتسلية. والأهم من ذلك، أن هذا الإطار القانوني لا يُكتفي بإعلان النوايا، بل يتجسد في موارد بشرية مكوّنة، وفضاءات مؤهلة، ومنهاج بيداغوجي مُمأسس.
هذا الاعتراف ليس شكليًا. إنه يحمل في طيّاته فلسفة دولة تؤمن أن الطفولة ليست انتظارًا لما سيأتي، بل هي زمن تربوي قائم بذاته، يستحق الحماية، والاحتواء، والاستثمار الذهني والمؤسسي.
أما في تونس، فما يزال التعليم قبل المدرسي يتحرك في فضاء رماديّ:
لا قانون موحّد يُلزم الدولة بتوفيره لكل طفل.
ولا مسار واضح يُدرجه ضمن النظام المدرسي العمومي.
بل نجد واقعًا موزعًا بين رياض أطفال خاصة، تختلف في المستوى والمضامين، ومحاضن غير نظامية، ومبادرات من المجتمع المدني، دون توجيه أو تقويم أو تنسيق.
إن هذا التشتت لا يعكس فقط غياب الرؤية، بل يشي بتهميش متراكم للطفولة الأولى، حيث يُنظر إلى هذه المرحلة كمجال تنشيطي أو استهلاكي، لا كحقّ تربوي أصيل لكل طفل، بغض النظر عن طبقته الاجتماعية أو الجغرافية.
فبينما تحوّل الطفل الفرنسي إلى مواطن صغير في حضن الدولة، يظلّ الطفل التونسي متأرجحًا بين عشوائية العرض، وهشاشة التكوين، وانعدام الإنصاف.
فلسفة التعليم قبل المدرسي: من اللعب باعتباره معرفة… إلى التلقين باعتباره استعدادًا

في فرنسا، لا يُنظر إلى الطفل في مرحلة maternelle كـ”مشروع تلميذ” يجب تهيئته للامتحان، بل يُنظر إليه كـ”كائن نامٍ” يملك إيقاعه الخاص، ورغبته في الاكتشاف، وشغفه الفطري باللعب.
المنهاج الفرنسي يضع اللعب في قلب التعلّم، باعتباره وسيلة لفهم العالم، وتمرير اللغة، وبناء العلاقات، وتجريب الأدوار، وتثبيت المفاهيم بشكل طبيعي وتدريجي.
فاللعب ليس لحظة استراحة، بل هو الفعل التربوي الأول، حيث يمتزج الخيال بالحركة، والإحساس بالفكر، والاندهاش بالمعنى.
تُرافق هذه الفلسفة أنشطة متكاملة تُوزّع على خمسة مجالات، منها تنمية اللغة الشفوية، والتفكير المنطقي، والوعي بالمكان والزمان، والتعبير الجسدي والفني.
ويُشجع الطفل على المحاولة، والمبادرة، والتساؤل، والتعبير عن مشاعره وأفكاره، في بيئة آمنة لا تعاقب على الخطأ بل تحتفي به كجزء من التعلّم.
أما في تونس، فالفلسفة التربوية ما تزال تعاني من تشوّش في الرؤية والأهداف.
فبدلاً من توفير فضاء آمن للّعب الهادف والاكتشاف الطبيعي، تُختزل التربية في هذه المرحلة في تهيئة سابقة لأوانها للتعليم الابتدائي، وكأن وظيفة الطفل هي “التعوّد على القسم”، و”حفظ الحروف”، و”الجلوس في الصف”، في عملية أشبه بمحاكاة مدرسية متسرّعة.
هذا التوجّه ينتج عنه ما يُمكن أن نسمّيه “مدرسة قبل المدرسة”، لا “مدرسة للطفولة”، حيث تُغتال الاندهاشات الأولى، ويُستبدل التفاعل الحيّ بالتكرار، وتُستبدل الحرية بالانضباط المُشوَّه، ويضيع بذلك جوهر المرحلة: تنمية الذات عبر التجربة، لا عبر الاستعداد للإملاء.
فالفرق بين النموذجين ليس في التفاصيل، بل في الفلسفة التربوية ذاتها:
في فرنسا، تُبنى العلاقة مع المدرسة من خلال الفرح، واللعب، والاكتشاف.
أما في تونس، فتُبنى أحيانًا من خلال القلق، والحشو، والتهيئة القسرية.
أليس من العبث أن نحمّل الطفل عبء “الاستعداد للتعلم”، بدل أن نتيح له أن “يتعلم أن يستعد”… بطريقته، بزمنه، بخياله؟

وظيفة المدرسة الاجتماعية: من بناء الانتماء إلى غياب الإحساس بالجماعة
في فرنسا، لا تُكلَّف المدرسة maternelle فقط بتعليم اللغة والرسم والعدّ، بل يُناط بها تشكيل الوعي الجماعي الأول للطفل. منذ لحظة دخوله، يُعامل الطفل كمواطن صغير في طور التعلّم، يُراد له أن يستبطن القيم المؤسسة للجمهورية: الحرية، المساواة، الأخوة، احترام الآخر، العيش المشترك، قبول الاختلاف، حبّ القانون، والانخراط في المصلحة العامة.
هذه القيم لا تُلقّن عبر شعارات معلّقة على الجدران، بل تُعاش وتُمارس:
عبر الانتظام في الحلقة الصباحية؛
عبر الانتظار بدور في اللعب؛
عبر طلب الكلمة؛
عبر الاعتذار حين الخطأ؛
وعبر مشاركة الآخرين المساحة والوقت والصوت.
هكذا تتحوّل المدرسة إلى مختبر حيّ للتماهي مع الجماعة دون إلغاء الفرد، ولتجريب حدود الذات في فضاء حرّ ومنظَّم في آن. إنها أول تجربة يُدرك فيها الطفل أن له حقوقًا كما عليه واجبات، وأنه ليس محور العالم، ولكنه جزءٌ مسؤول منه.
في تونس، تفتقر مرحلة التعليم ما قبل المدرسي ـ في الغالب ـ إلى هذه الرؤية الاجتماعية العميقة. فـالطفل يُنظر إليه بوصفه متعلّمًا مستقبليًا، لا مواطنًا في طور التشكل. تغيب الأنشطة الجماعية المهيكلة التي تدرّب على الإنصات، الاحترام، التعاون، الحوار، وتحلّ محلها أحيانًا ممارسات تلقينية أو فوضى لا منهج لها.
لا نجد في أغلب الروضات خطابًا تربويًا يربّي على قيم الانتماء الوطني، أو على حسّ المسؤولية الجماعية. وحتى حين تتوفّر بعض المبادرات، فإنها تظلّ موسمية، شعاراتية، غير مندمجة في نسق تربوي يومي واضح المعالم.
وهكذا تضيع واحدة من أهم وظائف المدرسة: صناعة الإحساس بالانتماء.
فحين يُحرم الطفل من التمرّن المبكر على الحياة المشتركة، يصبح من الصعب أن نبني في المراحل اللاحقة مواطنًا متوازنًا، منفتحًا، متقبّلًا للاختلاف، وملتزمًا بالفضاء العام.
فالطفل الذي لم يُدرَّب على احترام دوره في الطابور،
قد لا يحترم دوره لاحقًا في طابور الانتخاب.
التشخيص العام لحالة التعليم المبكر في تونس: بين الغياب والارتباك

إذا سلّطنا الضوء على المشهد التونسي في التعليم ما قبل المدرسي، نجد أنفسنا أمام واقع مزدحم بثغرات عميقة تنذر بأزمات تربوية قد تمتد آثارها لسنوات قادمة.
أولًا، غياب سياسة وطنية واضحة ومتكاملة للتعليم المبكر، يجعل من هذه المرحلة كأنها بلا خريطة توجهها، لا خطة ترسم خطواتها، ولا أهداف تحدد محطاتها. هذا الفراغ السياسي والتشريعي، ينتج عنه تشتت المؤسسات، وتضارب التوجهات، وعدم ضمان حق كل طفل في التعليم الجيد منذ نعومة أظافره.
ثانيًا، هناك غموض كبير في دور المربّي في هذا القطاع الحيوي. فالمربّي في تونس غالبًا ما يكون ناقص التكوين التربوي والنفسي المتخصص، محاطًا بقلة فرص التكوين المستمر، مما يؤثر مباشرة على جودة التفاعل اليومي مع الأطفال، ويُضعف من فاعلية البرامج المنفذة. هذا الواقع يشكل أحد أبرز عوائق بناء بيئة تربوية محفزة وآمنة للطفل.
ثالثًا، تفاوت هائل في جودة الخدمات المقدمة بين المناطق الحضرية والريفية، وبين المؤسسات الخاصة التي توفر إمكانيات أكبر، وتلك ذات الإمكانات المحدودة أو غير المهيكلة. لا وجود لآليات رقابة وتقييم بيداغوجي فعّالة تضمن مستوى موحدًا من التعليم المبكر، فتغدو بعض المؤسسات مجرد فضاءات “رعاية” دون محتوى تربوي يثري الطفل فكريًا واجتماعيًا.
هكذا، وبين هذا التشابك من الضعف والتشتت، تبقى مرحلة التعليم المبكر في تونس مُهدّدة بفقدان مكانتها الجوهرية، مما يعكس خطرًا تربويًا حقيقيًا على جودة التكوين اللاحق، وعلى مستقبل الطفل كمواطن وكإنسان.
البدائل المقترحة: نحو مدرسة تونسية متكاملة للطفولة المبكرة

إن الإصلاح الحقيقي لمنظومة التعليم قبل المدرسي في تونس لا يمكن أن يكون جزئيًا أو موسميًا، بل يجب أن يكون مشروعًا وطنيًا متكاملاً، يضع الطفولة في صلب الاهتمام والتخطيط. ومن هنا تبرز مجموعة من البدائل التي تُعيد الاعتبار لهذه المرحلة الحساسة:
✔️ 5.1 – تأطير قانوني شامل:
على الدولة أن تصدر قانونًا يُلزم بتوفير التعليم المبكر لجميع الأطفال ابتداءً من سن الثالثة، ويُدرج رياض الأطفال ضمن النظام التربوي الرسمي، ما يضمن لهم حقوقهم التربوية والاجتماعية. هذا الإطار القانوني يجب أن يحدد بوضوح مهام وصلاحيات الجهات المشرفة، ويُرسّخ مبادئ العدالة التربوية والمجانية والعلمانية.
✔️ 5.2 – منهاج وطني موحّد:
يجب تصميم منهاج وطني مرن، يُراعي خصوصيات الطفولة المبكرة، ويرتكز على اللعب كوسيلة تعليمية أساسية، والتعبير الحر، والتفاعل الاجتماعي. هذا المنهاج يُبنى على أسس علمية تربوية ويُضمن استمراريته عبر تقييم دوري وتطوير مستمر.
✔️ 5.3 – تكوين المربّين على أسس علم النفس التربوي:
لا يمكن تحسين جودة التعليم المبكر دون الارتقاء بمستوى تكوين المربّين، الذين هم عماد العملية التربوية. لذا ينبغي إنشاء مراكز تدريب متخصصة، وتوفير برامج تأهيل مستمرة، تأخذ في الاعتبار خصوصيات الطفولة المبكرة، ومتطلبات التنمية العاطفية والاجتماعية والمعرفية للأطفال.
✔️ 5.4 – رقابة بيداغوجية تطويرية لا عقابية:
ينبغي أن تتوفر آليات رقابة وتقييم تشاركية، تهدف إلى دعم المؤسسات وتحسين أدائها، لا إلى معاقبتها أو إغلاقها. هذه الرقابة يجب أن ترافقها برامج توجيه وإرشاد تساعد في رفع جودة التعليم المبكر، وتعزز من التزام المؤسسات بالمعايير التربوية المتفق عليها.
إن تبني هذه البدائل ليس ترفًا، بل ضرورة وطنية تربوية للحفاظ على مستقبل أجيالنا، وضمان بناء مجتمع متماسك، واعٍ، ومبدع.
فالطفولة المبكرة هي الحقل الذي تُزرع فيه بذور الإنسان، وبأي تربة نزرع، يكون الحصاد.
خاتمة: إلى من يقرأ، رسالة من حضن الطفولة

طفل الثالثة لا يحتاج إلى أبجدية مبكّرة، بل إلى حضن تربوي دافئ يحتضن أولى أنفاسه المعرفية، ويرافقه برفق نحو اكتشاف ذاته والعالم من حوله.
لا يحتاج إلى مكررات الحروف والكلمات، بل إلى لمس يده يد العطف، ونبرة صوت تغذي روحه، وألعاب تفتح أمامه أبواب الخيال، وتجارب تُسعف عقله على التشبث بالحياة بكل براءتها.
حين نُعيد الاعتبار لهذه المرحلة، لا نعيد فقط بناء مؤسسات، بل نعيد صياغة الإنسان، نزرع في تربة طفولته بذور الأمل، والقوة، والحرية، والمواطنة.
هل نحن مستعدون، كأمة، أن نكون للسنة الثالثة «مدرسة الحياة» لا «مدرسة الحفظ»؟
هل نملك الجرأة لنحول التعليم المبكر من ملحق هامشي إلى نواة مركزية تُشرق منها شمس الغد؟
يبقى السؤال مفتوحًا… لكن الأمل متجدد، والطفولة لا تنتظر.
بقلم: عماد إيلاهي
كاتب مسرحي، روائي وباحث في الشأن التربوي
قائمة المصادر والمراجع:
- وزارة التربية الوطنية الفرنسية – موقع رسمي
لمحة شاملة عن المدرسة maternelle وبرامجها:
education.gouv.fr – École maternelle - التقرير الوطني الفرنسي حول التعليم المبكر (2019)
تحليل شامل لتطوير التعليم قبل المدرسي في فرنسا:
Rapport sur l’école maternelle – Ministère de l’Éducation nationale (PDF) - اليونيسيف – التعليم المبكر في تونس
تقرير عن واقع التعليم المبكر واحتياجاته:
UNICEF Tunisia Early Childhood Education - اليونسكو – التعليم في تونس
تقرير عالمي عن منظومة التعليم التونسية:
UNESCO – Tunisia Education Profile - البنك الدولي – دعم التعليم المبكر في تونس
دراسة عن دعم التعليم المبكر والتحديات:
World Bank Tunisia Early Childhood Education - مركز البحوث التربوية – تونس
بحوث ودراسات متخصصة في التعليم الابتدائي وما قبل المدرسي:
CRDP Tunisia - مقال تحليلي عن فلسفة التعليم المبكر في فرنسا
The Conversation – Early Childhood Education in France - مبادرة التربية المبكرة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط
تقرير وتحليل للممارسات والتحديات:
Early Childhood Development in MENA Region
كلمات مفاتيح:
#التعليم_قبل_المدرسي #النموذج_الفرنسي #إصلاح_التعليم #الطفولة_المبكرة #تونس #تعليم_جيد