قهوة في الساحة
في قلب العاصمة التونسية، حيث يلتقي ضجيج المدينة برائحة القهوة المتصاعدة من المقاهي القديمة، تقع “قهوة الساحة”. مقهى شعبي ضيق المساحة لكنه واسع الحكايات، يحتضن تحت مظلته الخشبية بسطاء الناس ومثقفيهم، حالمين ومنكسرين، كلهم يجتمعون حول طاولات حديدية مهترئة تشهد على نقاشاتهم الساخنة وأحلامهم المؤجلة.
في زاوية المقهى، يقف حسن، بائع شاي متجول، يحمل إبريقه النحاسي كأنه جندي يحمل سلاحه. وجهه شاحب بفعل تعب السنين، لكنه يبتسم ابتسامة تعرف طريقها إلى القلوب. حسن ليس مجرد بائع شاي؛ هو شاهد على تحولات الساحة، يعرف روّادها وأسرارهم، يتنقل بينهم كعصفور يجمع فتات الحكايات.
عند طاولة مستديرة، تجلس ناجية، ناشطة سياسية ترفض أن ينطفئ وهج الثورة في عينيها رغم كل الخيبات. صوتها حاد وحركاتها متوترة، كأنها تخوض معركة خفية لا يعرفها أحد. بجانبها كمال، طالب جامعي عابس الوجه، ينظر حوله بنظرة ساخرة، كمن فقد ثقته بكل شيء. وعلى الطاولة المجاورة، يجلس عم الطاهر، شيخ تجاوز الستين، له لحية بيضاء كثيفة وعيون ذكية تلمع خلف نظارته المستديرة. كان يحتسي قهوته ببطء، وكأن الزمن توقف عنده.
بدأ النقاش كأي نقاش عابر عن غلاء الأسعار. قال حسن وهو يملأ كوب شاي لزبون عابر:
“الغلة تغلي، والجيوب فارغة… والله، الثورة ما قلبت إلا جيبي.”
ردت عليه ناجية بنبرة حادة:
“لا تظلم الثورة يا حسن! الثورة ما كانت إلا البداية. المشكلة فينا، إحنا اللي وقفنا نص الطريق.”
ضحك كمال ضحكة ساخرة وقال:
“بداية؟ بل هي دائرة، ندور فيها منذ عشر سنوات، لا نعرف لها مخرجًا. الحرية التي حلمنا بها أصبحت لعبة في يد الأقوياء.”
أشعلت كلمات كمال حدة النقاش، وبدأ كل واحد يدلي بدلوه، بين متحمس يذرف كلمات الأمل وبين ساخر يرمي سهام الإحباط. أما عم الطاهر، فقد ظل صامتًا، يحتسي قهوته بعناية، يراقبهم بنظرة حكيم يدرك أن الكلمات لا تغير القدر.
بعد فترة، رفع رأسه وقال بصوت هادئ:
“يا أولادي، الثورة ليست حادثة تنتهي، بل هي حياة تبدأ. لا تنتظروا منها أن تمنحكم كل شيء. الثورة هي أن تغيّروا أنفسكم أولاً، أن تصنعوا طريقكم في الظلمة، خطوة بخطوة.”
ساد الصمت. الكلمات البسيطة التي قالها عم الطاهر اخترقت الجدران الصلبة للقلوب. حتى ناجية، التي اعتادت الجدال، اكتفت بهزة رأس هادئة.
عند المغيب، انفض الجمع، تاركين حسن يجمع أكواب الشاي ويودع المقهى بصمت. وفي طريقه إلى منزله، رأى طفلًا صغيرًا يركض خلف كرة مهترئة وسط حي فقير، ضاحكًا كأن العالم كله ملك يديه. ابتسم حسن ابتسامة عميقة وتذكر كلمات عم الطاهر:
“الثورة ما هيش كلمة، هي خطوة في ظلمة طويلة.”