جميع الحقوق محفوظة لعماد إيلاهي. يُمنع نسخ أو إعادة نشر أي جزء من هذا الموقع بأي وسيلة دون إذن كتابي مسبق.

في قلب الليل، حين ينسحب ضوء النهار كما ينسحب البحر عن الشاطئ، يسكن العالم في هدوءٍ عميق، يلتفّ حوله الصمت كما يلتف الغيم حول الجبل. الليل ليس مجرد غياب للضوء، بل هو لحظة من الزمان تتناثر فيها الأماني وتغني الأرواح، عاريةً من كل ضوضاء، حرةً كما الرياح التي تعانق السماء. في عتمته يتنفس الكون بشكلٍ مختلف، كأن الأنفاس نفسها تتناغم مع هدوء الليل، وتعيد للأشياء طهارتها.

تسقط النجوم كأحجارٍ فضية على بحر السماء، كل واحدة منها تحمل سراً عميقاً، وأغنيتها تعزف على أوتار الزمن. في كل ومضة، هناك حكاية لم تُروَ، وفي كل شعاع هناك رغبة في السكون، تبحث عن معانٍ دفنتها الشمس في غروبها. الليل هو الذي يأخذنا بعيداً عن أنفسنا، فيزرع في القلب أسئلة لا تُجيب عنها إلا تلك اللحظات التي نكون فيها وحدنا، نتأمل، نُفكر، وتغرق أرواحنا في بحار من الحيرة والتأمل.

الريح، في هذا الوقت، تصبح مرشدة للحالمين، تعبيراتها تتنقل بين أغصان الأشجار وكأنها ترسم على وجوهنا لوحات من الأمل، تهمس في أذن الليل أسرار من لا يستطيع البوح. يتناثر الندى على أوراق الزهور، كأنها دموع السماء التي تذرفها طيبة قلبها، فتنتعش الأرض وتُعيد الحياة لكل الأشياء التي غطاها الغبار. وفي تلك اللحظات، يتحول كل شيء إلى حلمٍ بعيد، يحمل معه عبق الماضي وآمال المستقبل.

النوم، حين يقترب من العيون المرهقة، لا يكون سوى رحلة إلى بحرٍ من الأحلام، حيث لا وجود للزمن، ولا للألم. في النوم، نُجبر على مواجهة أنفسنا دون أقنعة، نغرق في بئرٍ من الذاكرة والخيال، ونحلم بما لم نجرؤ على تحقيقه في اليقظة. هو السكون الذي ينطوي على حياةٍ كاملة، يقتطف منها لحظاتٍ من الجمال والسكينة، ويزرع في الروح قوةً ناعمة تهمس في أذن القلب: “الهدوء هو أجمل ما في الوجود”.

وفي تلك اللحظات، يكتشف الإنسان جمال الليل في ما لا يرى. ففي الظلال تزداد الأشياء وضوحاً، وفي سكون العتمة نجد أن الضوء لا يكتمل إلا في الظلام. يعلو صدى الأقدار في أذن الليل، وتظل النجوم مرشداً ضياءً لأولئك الذين لا يبحثون إلا عن الفهم البسيط، دون زخارف، عن حقيقة الحياة التي تختبئ في عمق الليل، بعيداً عن زيف النهار.

فبينما تتناثر أحلامنا على ضوء القمر، وتغرق الأنفاس في الأفق، يبقى الليل هو الشاهد الصامت لكل ما لا يمكن للنهار أن يعبر عنه. في سكونه سحرٌ لا يفسره كلام، وفي ظلاله تختفي الهمسات التي لا تُسمع إلا في قلبٍ تائه، يبحث عن ذاته في طيفٍ بعيد. الليل هو الزمن الذي يمتد إلى أبعد من حدود الجسد، هو حين تصبح الروح هي التي تسافر في المكان، حين يختلط الحلم بالواقع في لحنٍ واحد، غير مدركٍ للمسافات.

الليل يا صديقي ليس فترة انتظار، بل هو ميلاد جديد لكل من يصدق أن في الصمت قوة، وفي الظلام أمل، وفي العزلة سكينة لا تقدر بثمن. فيه تختلط أرواحنا مع النجوم، وفيه تنبت الأزهار في أعماق قلوبنا، وكل لحظة منه هي فرصة لتأمل الجمال الخفي الذي يضيع في ضوء النهار، ليعود مع فجر جديد يحمل بين طياته أسرار الليل التي لا تنكشف إلا لمن يسكنها.

Shares:
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *