جميع الحقوق محفوظة لعماد إيلاهي. يُمنع نسخ أو إعادة نشر أي جزء من هذا الموقع بأي وسيلة دون إذن كتابي مسبق.

مطرٌ خفيفٌ ينقرُ نافذتي، كأنّه أصابعُ ليلٍ حنونٍ تعزفُ لحنًا خافتًا على زجاجِ الوحدة. صوتُهُ وديعٌ كهمساتِ الذكرياتِ العائدةِ من زمنٍ بعيد، ينسابُ برفقٍ كما لو أنه يخشى أن يوقظَ المدنَ النائمة، أو أن يُربكَ سكونَ هذا القلبِ المثقلِ بالشوق.

في الخارج، تغتسلُ الشوارعُ من غبارِ الأيام، ويتهامسُ العابرونَ تحتَ المظلاتِ كأنهم يخشونَ أن تُفسِدَ الكلماتُ قداسةَ هذا المطر. الأشجارُ تُمَدُّ أغصانَها له كطفلٍ يطلبُ دفءَ أمه، والأسطحُ تفتحُ أفواهَها ليرويها الغيمُ بماءِ السماء. حتى المصابيحُ المرتعشةُ في الطرقاتِ تبدو أكثرَ خفوتًا، كأنّها تراقبُ المشهدَ في صمتٍ مهيب.
وفي الداخل، حيثُ الوحدةُ والصمتُ، حيثُ رائحةُ الكتبِ المغلقةِ على أسرارها، حيثُ فنجانُ القهوةِ الذي بردَ ولم يبردْ معهُ هذا الحنينُ العميقُ، أجلسُ أمامَ النافذةِ أراقبُ المطرَ كمنْ يراقبُ قلبَهُ وهو يفيضُ بالمشاعرِ دونَ أنْ يجرؤَ على البوح.

أمدُّ يدي إلى الزجاج، فيتسللُ البردُ إلى أناملي، يلتصقُ بها كما يلتصقُ المطرُ بالنافذة، كأنّ كلَّ قطرةٍ تحاولُ أن تهمسَ لي بسرٍّ لم أفهمْهُ بعد. أراقبُ أثرَ أنفاسي على الزجاجِ كيفَ يغيمُ للحظةٍ ثم يختفي، مثلَ الأحلامِ العابرة، مثلَ الوعودِ التي لم تكتمل، مثلَ وجوهٍ أحببناها ثم ابتلعتها المسافات.

المطرُ لا يكذب، المطرُ وحدهُ يُعيدُ إلينا ما خبّأناهُ عن أنفسِنا، يُخرجُ من القلبِ ما دفنّاهُ طويلًا تحتَ ركامِ الوقت، يفتحُ نوافذَ الذاكرةِ المغلقةِ، فينهمرُ الحنينُ كما تنهمرُ القطراتُ على الأرصفةِ الخالية.
أحبُّ المطر، لأنّهُ يشبهُني. يأتي بلا موعد، يمضي بلا وداع، لكنه يتركُ أثرَهُ حيثُ يمرّ، كما تفعلُ الأحلامُ، كما تفعلُ المشاعرُ التي لم تجدْ طريقَها إلى الكلام.

Shares:
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *