يا ليلَ الحزن، أما كفاكَ أن تسدلَ ستارك على عينيَّ كلّما حاولتُ أن أبصرَ أثره في الطرقات؟ أما شبعتَ من أنيني، حتى جعلتَ من أضلعي قيثارةً يعزفُها الألم؟ كم مرةٍ أيقظتَني من حلمٍ جميل، فقط لأجدَني في واقعٍ خالٍ من دفءِ صوته، كأنما أنتَ يا ليلُ لا تعرفُ للشفقةِ معنى، ولا للقلوبِ المكسورةِ عزاء!
كانا هنا، كأوّلِ ضوءٍ يشقُّ صدرَ الليل، كهمسِ النسيمِ حين يراقصُ السنابل، كمطرٍ يعيدُ للأرضِ عطشَها للحياة. كنتُ أراه بين تفاصيلِ الأشياء، في انسيابِ الماء، في امتدادِ الظلال، في ارتعاشِ الضوءِ على صفحةِ النهر. كنتُ أراهُ في كلِّ وجهٍ عابر، في كلِّ كلمةٍ مبعثرة، في كلِّ لحظةٍ لم تكتمل. والآن، لم يبقَ سوى الفراغ، فراغٌ ينهشُ الروحَ كما تنهشُ الريحُ ورقةً تائهةً في منتصفِ الخريف، تتقاذفُها الطرقات، فلا تستقرُّ على أرضٍ ولا تبلغُ سماء.
أيا غائبًا، هل ترى كيف صارَ الصمتُ بيتي؟ كيف تحوّلت الجدرانُ إلى أصداءِ تردِّدُ اسمَك في كلِّ مساء؟ هل ترى كيف تلاشت ألوانُ ضحكتي، كما يذوبُ الشفقُ في حضنِ الليل؟ وهل تدركُ كيف استحالَ صوتُك في ذاكرتي إلى نشيدٍ يترددُ بين جدرانِ القلبِ المنهك، فلا يهدأ، ولا يختفي، ولا ينطفئ؟
ما أصعبَ أن تمضي الأيامُ ولا يمضي معَها الوجعُ، أن تتبدّلَ الفصولُ ولا يتبدّلُ هذا الشعورُ العالقُ بين القلبِ والذاكرةِ، كجرحٍ يأبى الاندمالَ، أو كظلٍّ يطاردُ صاحبهُ حيثما ذهب. أن تنهضَ كلَّ صباحٍ بنفسِ الثقلِ في صدرك، وكأن الليلَ لم يكن كافيًا ليطوي بعضَ الأوجاعِ تحت عباءته.
أحيانًا، يصبحُ الغيابُ كحكايةٍ مبتورة، تتكررُ بدايتُها مرارًا، لكنَّها لا تبلغُ نهايتها أبدًا. تظلُّ تدورُ في ذهنك، تحاولُ أن تعيدَ صياغتَها، أن تملأَ الفراغاتِ التي تركها الغيابُ خلفه، لكن عبثًا تحاول، فكلُّ محاولةٍ ليست سوى ارتطامٍ بجدارِ الحقيقةِ الصامتةِ التي لا تمنحُك سوى الأسئلةِ، دون أن تجودَ عليكَ بإجابةٍ واحدة.
كم من حديثٍ وأدتُه بين الضلوعِ قبلَ أن يولد، وكم من نظرةٍ ثقبتها الدموعُ حتى أرهقتُ الأجفان! كم من ذكرى تسلّلت إلى مساحاتِ الروح، فأوقدت نارًا في القلبِ لا تخمد، كأنّها شمسٌ أبت أن تغيب! أيا غائبًا، إن سألوكَ عني، فقل لهم:
“كانت في قلبهِ نارٌ تتوهّجُ بالحياة، حتى أطفأها الغياب، فلم يبقَ منها إلا الرماد…”
قد يظنّ البعضُ أنّ الغيابَ مجرّدُ مسافةٍ تفصلُ بين جسدين، لكن الحقيقةَ أنّ الغيابَ هو تلك المسافةُ التي تنشأُ بين الروحِ والروح، بين القلبِ والطمأنينة، بين الحلمِ والواقع. هو الجدارُ الذي يُبنى في غفلةٍ، فلا يعودُ الهدمُ خيارًا، هو التيهُ في دروبٍ لم نعرفها، والبحثُ عن ملامحٍ ألفناها بين وجوهٍ غريبةٍ، والنظرُ إلى السماءِ بانتظارِ رسالةٍ لن تصل.
إنّ الغيابَ وطنٌ للذين لم يعودوا كما كانوا، لأولئك الذين مزّقهم الشوقُ فلم يعودوا قادرينَ على الانتماءِ إلى شيء، الذين صاروا عالقينَ بين الأمسِ الذي يلوّحُ لهم من بعيد، واليومِ الذي لا يمنحهم غير الغربة.
لكن، يا ترى، هل للغيابِ من نهاية؟ أم أنّه قدرٌ لا يُمحى، كخطوطِ الزمنِ على وجهِ الأيام؟ هل يندملُ القلبُ من فقدانِ من نحبّ، أم أنّه يعتادُ فقط على حملِ الندبةِ بصمت؟
يقولونَ إنّ الزمنَ كفيلٌ بمداواةِ الجراح، لكنّهم لا يخبرونكَ كيفَ تتعايشُ مع الندوبِ التي يتركها خلفه. لا يخبرونكَ أنّ بعضَ الذكرياتِ تظلّ حيّةً، وأنّ بعضَ الأصواتِ تبقى عالقةً في زوايا الذاكرةِ، وأنّ بعضَ الأسماءِ لا تفقدُ بريقها، مهما مرّت الأعوام.
ورغمَ كلّ شيء، لا يزالُ هناكَ شيءٌ فينا يرفضُ الاستسلام. لا يزالُ هناكَ ضوءٌ صغيرٌ في آخرِ النفقِ، يلوّحُ لنا بأنّ الحياةَ لا تزالُ قادرةً على منحنَا لحظاتِ دفءٍ، حتى وإن شابها شيءٌ من الحنين.
فلربّما الغيابُ، وإن كانَ موجعًا، يمنحُنا درسًا في التقدير، ويعلّمُنا أن نحبَّ بعمق، وأن نحتضنَ من نحبُّ قبلَ أن يختطفَهم الغيابُ إلى حيثُ لا رجوع.