
Contents
مُغامَراتٌ في المَكتَبةِ السِّحرِيَّةِ. – قصة للأطفال
فِي بَيْتٍ عَتِيقٍ، تَسْكُنُهُ ذِكْرَيَاتٌ تَتَهَادَىٰ بَيْنَ جُدْرَانِهِ كَأَسْرَارٍ مَكْتُومَةٍ، كَانَ يَعِيشُ الْجَدُّ حَكِيم. قَلِيلًا مَا يَزُورُهُ أَحْفَادُهُ، بِاسْتِثْنَاءِ سَلِيم، الْفَتَىٰ ذُو الْعَشَرَةِ أَعْوَامٍ الَّذِي تَتَوَقَّدُ عَيْنَاهُ بِلَهِيبِ الْفُضُولِ. سَمِعَ سَلِيمٌ عَنِ “الْمَكْتَبَةِ الْمَنْسِيَّةِ” فِي الطَّابِقِ الْعُلْوِيِّ، كَحِكَايَةٍ سِرِّيَّةٍ يَتَدَاوَلُهَا الْكِبَارُ بِنَبْرَةٍ خَفِيضَةٍ. كَانَ هَذَا الْمَكَانُ الْغَامِضُ، الَّذِي يَتَجَاهَلُهُ الْجَمِيعُ، يَشُدُّ قَلْبَ سَلِيمٍ الصَّغِيرَ بِشَيْءٍ مِنَ السِّحْرِ الْخَفِيِّ.

فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ الْمُشْمِسَةِ، وَبَيْنَمَا كَانَتِ الْعَائِلَةُ مُجْتَمِعَةً فِي بَهْوِ الْمَنْزِلِ، تَسَلَّلَ سَلِيمٌ بِخُطُوَاتٍ وَاثِقَةٍ نَحْوَ الدَّرَجِ الْخَشَبِيِّ الْقَدِيمِ. كَانَتْ كُلُّ دَرَجَةٍ تُصْدِرُ صَرِيرًا خَافِتًا كَأَنَّهَا تَهْمِسُ لَهُ: “اِصْعَدْ… اِكْتَشِفْ…”
وَصَلَ سَلِيمٌ إِلَى الطَّابِقِ الْعُلْوِيِّ، وَوَجَدَ أَمَامَهُ بَابًا خَشَبِيًّا بَاهِتَ اللَّوْنِ، تَعْلُوهُ نُقُوشٌ غَرِيبَةٌ تُشْبِهُ أَوْرَاقًا مُلْتَفَّةً حَوْلَ أَغْصَانٍ مُتَدَاخِلَةٍ. دَفَعَ الْبَابَ بِرِفْقٍ، فَانْفَتَحَ عَلَىٰ عَالَمٍ آخَر.

كَانَتِ الْمَكْتَبَةُ مَمْلَكَةً صَامِتَةً حَقًّا، لَكِنَّ صَمْتَهَا كَانَ مَلِيئًا بِالْحَيَاةِ الْكَامِنَةِ. أَرْفُفٌ خَشَبِيَّةٌ شَاهِقَةٌ، مُتَعَرِّجَةٌ كَجُذُورِ أَشْجَارٍ مُعَمَّرَةٍ، تَحْتَضِنُ آلَافَ الْكُتُبِ ذَاتِ الْأَغْلِفَةِ الْبَاهِتَةِ وَالْمُتَنَوِّعَةِ الْأَحْجَامِ. خُيُوطٌ ذَهَبِيَّةٌ شَاحِبَةٌ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ تَتَسَلَّلُ مِنْ نَافِذَةٍ دَائِرِيَّةٍ مُغَطَّاةٍ جُزْئِيًّا بِأَوْرَاقِ اللُّبْلَابِ. تَنْبَعِثُ مِنَ الْكُتُبِ رَوَائِحُ مُتَنَوِّعَةٌ: عَبِقُ الْوَرَقِ الْعَتِيقِ، لَمْسَةٌ حَارَّةٌ لِلتَّوَابِلِ الْقَدِيمَةِ، وَنَفَحَاتٌ خَفِيفَةٌ مِنْ تُرَابِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. بَيْنَ الْحِينِ وَالْآخَرِ، تُسْمَعُ خَشْخَشَةٌ خَافِتَةٌ كَأَنَّ الصَّفَحَاتِ تَتَنَفَّسُ، وَدَقَّاتُ سَاعَةِ جَدٍّ قَدِيمَةٍ تَتَوَقَّفُ فَجْأَةً ثُمَّ تَعُودُ لِلْعَمَلِ بِإِيقَاعٍ غَيْرِ مُنْتَظِمٍ. تَتَرَاقَصُ ذَرَّاتُ الْغُبَارِ فِي تِلْكَ الْخُيُوطِ الذَّهَبِيَّةِ كَنُجُومٍ صَغِيرَةٍ.

شَعَرَ سَلِيمٌ بِهَمْسٍ خَفِيضٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْأَرْفُفِ، كَأَنَّ الْكُتُبَ تَتَحَادَثُ بِأَسْرَارٍ لَا يَسْمَعُهَا إِلَّا هُوَ. وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَىٰ كِتَابٍ صَغِيرٍ ذِي غِلَافٍ جِلْدِيٍّ دَاكِنٍ مُلْمَسُهُ نَاعِمٌ كَالْحَرِيرِ الْبَالِي، يَحْمِلُ رَمْزًا فِضِّيًّا يَتَوَهَّجُ بِشَكْلٍ خَافِتٍ عَلَىٰ غِلَافِهِ، كَنُجْمَةٍ سَاقِطَةٍ اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ. تَقَدَّمَ سَلِيمٌ بِبُطْءٍ وَمَدَّ يَدَهُ الصَّغِيرَةَ نَحْوَ الْكِتَابِ. لَمَسَ الرَّمْزَ الْفِضِّيَّ، وَفَجْأَةً شَعَرَ بِنَبْضَةٍ خَفِيفَةٍ تَسْرِي فِي أَصَابِعِهِ، كَأَنَّ الْكِتَابَ يَتَنَفَّسُ بِلُطْفٍ.

بَيْنَمَا أَخَذَ سَلِيمٌ يُقَلِّبُ صَفَحَاتِ الْكِتَابِ ذِي الرَّمْزِ الْمُتَوَهِّجِ بِفُضُولٍ مُتَزَايِدٍ، لَاحَظَ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الْمُطْبُوعَةَ بِحِبْرٍ بَاهِتٍ بَدَأَتْ تَتَحَرَّكُ بِبُطْءٍ، ثُمَّ تَشَكَّلَتْ فِي أَنْمَاطٍ غَرِيبَةٍ وَمُتَدَاخِلَةٍ كَأَنَّهَا دُودٌ صَغِيرٌ يَدِبُّ عَلَى الْوَرَقِ. شَعَرَ سَلِيمٌ بِدُوَارٍ خَفِيفٍ يَغْشَاهُ، وَتَصَاعَدَتْ مِنَ الصَّفَحَاتِ رَائِحَةٌ قَدِيمَةٌ كَرَائِحَةِ التُّرَابِ النَّدِيِّ الْمَمْزُوجَةِ بِرَائِحَةِ تَوَابِلَ غَرِيبَةٍ لَمْ يَشَمَّهَا مِنْ قَبْلُ، أَثَارَتْ فِي نَفْسِهِ شُعُورًا بِالْغَرَابَةِ وَالتَّرَقُّبِ.
فَجْأَةً، اِزْدَادَ تَوَهُّجُ الرَّمْزِ الْفِضِّيِّ عَلَى الْغِلَافِ بِقُوَّةٍ، وَبَدَأَ ضَوْءٌ سَاطِعٌ يَنْبَعِثُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُتَحَرِّكَةِ عَلَى الصَّفَحَاتِ. تَحَوَّلَتِ الصَّفْحَةُ أَمَامَ عَيْنَيْ سَلِيمٍ إِلَى دَوَّامَةٍ ضَوْئِيَّةٍ مُلَوَّنَةٍ، تَدُورُ بِسُرْعَةٍ وَتَجْذِبُ كُلَّ مَا حَوْلَهَا بِقُوَّةٍ عَجِيبَةٍ. شَعَرَ سَلِيمٌ بِقُوَّةٍ خَارِجِيَّةٍ تَسْحَبُهُ بِعُنْفٍ إِلَىٰ دَاخِلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقَاوِمَ هَذَا الْجَذْبَ الْقَوِيَّ.

وَفِي لَحْظَةٍ لَمْ يَسْتَغْرِقْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَجَدَ سَلِيمٌ نَفْسَهُ فِي عَالَمٍ مُخْتَلِفٍ تَمَامًا. لَمْ يَكُنْ فِي الْمَكْتَبَةِ الصَّامِتَةِ بَعْدَ الْآنَ، بَلْ كَانَ وَاقِفًا عَلَىٰ سَطْحِ سَفِينَةٍ خَشَبِيَّةٍ ضَخْمَةٍ تَتَمَايَلُ بِعُنْفٍ عَلَىٰ أَمْوَاجٍ زَرْقَاءَ عَالِيَةٍ. كَانَ الْهَوَاءُ مَلِيئًا بِصُرَاخِ الرِّجَالِ وَصَلِيلِ السُّيُوفِ وَرَائِحَةِ الْمِلْحِ وَالْخَشَبِ الرَّطْبِ. كَانَتِ السَّفِينَةُ تَعُجُّ بِالْقَرَاصِنَةِ ذَوِي اللِّحَى الطَّوِيلَةِ وَالْعُيُونِ الشَّرِسَةِ، يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ بِحَرَكَةٍ نَشِيطَةٍ، وَيُطْلِقُونَ صَيْحَاتِ الْحَمَاسِ وَالْأَوَامِرَ الْغَاضِبَةَ.

دُرُوسٌ فِي بَحْرِ الْمُغَامَرَاتِ
وَسَطَ صَخَبِ الْقَرَاصِنَةِ وَأَزِيزِ الْأَمْوَاجِ، اِقْتَرَبَ مِنْ سَلِيمٍ كِتَابٌ ضَخْمٌ ذُو غِلَافٍ بُنِّيٍّ بَالٍ، اِنْبَعَثَ مِنْهُ وَهَجٌ خَفِيفٌ كَضَوْءِ قَمَرٍ خَافِتٍ. بَدَأَتْ صَفَحَاتُ الْكِتَابِ تَتَهَامَسُ بِأَصْوَاتٍ خَفِيضَةٍ كَحَفِيفِ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ. كَانَ هَذَا الْكِتَابُ هُوَ “هَمْسَ الصَّفَحَاتِ”، الَّذِي كَشَفَ لِسَلِيمٍ عَنْ سِرِّ الْمَكْتَبَةِ الْعَجِيبِ: لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ مَكَانٍ لِحِفْظِ الْقِصَصِ، بَلْ كَانَتْ بَوَّابَةً سِحْرِيَّةً تَنْقُلُهُ إِلَىٰ عَوَالِمَ حَقِيقِيَّةٍ تَخْتَبِئُ بَيْنَ سُطُورِهَا.

وَجَدَ سَلِيمٌ نَفْسَهُ مُوَاجِهًا لِتَحَدِّيَاتِ الْقَرَاصِنَةِ الْقَاسِيَةِ. كَانُوا يَأْمُرُونَهُ بِأَعْمَالٍ صَعْبَةٍ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بِعُيُونٍ شَكَّاكَةٍ. شَعَرَ سَلِيمٌ بِالْخَوْفِ يَتَسَلَّلُ إِلَىٰ قَلْبِهِ الصَّغِيرِ، لَكِنَّهُ تَذَكَّرَ قِصَصَ الْأَبْطَالِ الشُّجْعَانِ الَّذِينَ قَرَأَ عَنْهُمْ فِي الْمَكْتَبَةِ، فَاسْتَجْمَعَ قُوَّتَهُ وَحَاوَلَ أَنْ يَكُونَ شُجَاعًا. تَعَلَّمَ سَرِيعًا أَنَّ الْبَقَاءَ عَلَىٰ قَيْدِ الْحَيَاةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْخَطِرِ يَتَطَلَّبُ التَّعَاوُنَ مَعَ الْآخَرِينَ، حَتَّىٰ وَلَوْ كَانُوا قَرَاصِنَةً أَشِدَّاءَ.

وَبَيْنَمَا كَانَ سَلِيمٌ يُوَاجِهُ تِلْكَ الْمَوَاقِفَ الصَّعْبَةَ، لَمْ يَنْسَ دَفْتَرَهُ الصَّغِيرَ وَقَلَمَهُ. كَانَ يُدَوِّنُ بِتَرْكِيزٍ كُلَّ مَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ، مِنْ طَبِيعَةِ الْبَحْرِ وَحَرَكَةِ السَّفِينَةِ إِلَىٰ طِبَاعِ الْقَرَاصِنَةِ وَطَرِيقَةِ تَحَدُّثِهِمْ. وَكَمْ كَانَتْ دَهْشَتُهُ كَبِيرَةً عِنْدَمَا اِكْتَشَفَ أَنَّ مُلَاحَظَاتِهِ الدَّقِيقَةَ تُسَاعِدُهُ عَلَىٰ فَهْمِ طَبِيعَةِ هَذَا الْعَالَمِ الْغَرِيبِ وَالتَّكَيُّفِ مَعَهُ بِشَكْلٍ أَفْضَلَ. كَانَ الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ هُمَا سِلَاحَهُ الْحَقِيقِيُّ فِي بَحْرِ الْمُغَامَرَاتِ.
لُغْزُ الزَّمَنِ الضَّائِعِ
فَجْأَةً، وَبِطَرِيقَةٍ غَامِضَةٍ كَمَا وَصَلَ، وَجَدَ سَلِيمٌ نَفْسَهُ مُجَدَّدًا فِي الْمَكْتَبَةِ الصَّامِتَةِ. لَكِنَّ الْهَمَسَ الْخَافِتَ قَدْ تَغَيَّرَ، وَحَلَّ مَحَلَّهُ صَوْتٌ وَقُورٌ كَهَمْسِ الرِّيحِ بَيْنَ أَوْرَاقٍ عَتِيقَةٍ. وَقَفَ أَمَامَ رَفٍّ مُظْلِمٍ، وَلَمَحَ كِتَابًا مُجَلَّدًا بِجِلْدٍ أَصْفَرَ بَاهِتٍ، تَتَدَلَّىٰ مِنْهُ شَرَائِطُ قُمَاشٍ مُهْتَرِئَةٌ. كَانَ الْكِتَابُ يَنْبُضُ بِهَالَةٍ زَمَنِيَّةٍ خَفِيفَةٍ، وَكَأَنَّهُ يَحْتَفِظُ بِأَسْرَارِ الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ.
اِقْتَرَبَ سَلِيمٌ بِحَذَرٍ وَلَمَسَ غِلَافَ الْكِتَابِ، فَانْتَقَلَتْ إِلَيْهِ رَعْشَةٌ بَارِدَةٌ كَلَمْسَةِ الْبَرْدِ فِي لَيْلَةٍ شِتَائِيَّةٍ. اِنْفَتَحَ الْكِتَابُ عَلَىٰ صَفْحَةٍ قَدِيمَةٍ تَحْمِلُ خُطُوطًا مُتَشَابِكَةً وَرُسُومًا غَرِيبَةً. شَعَرَ سَلِيمٌ بِجَاذِبِيَّةٍ قَوِيَّةٍ نَحْوَ تِلْكَ الصَّفَحَةِ، كَأَنَّهَا تَدْعُوهُ لِكَشْفِ لُغْزٍ تَارِيخِيٍّ غَامِضٍ يَكْمُنُ بَيْنَ سُطُورِهَا. وَفَجْأَةً، شَعَرَ بِدُوَارٍ أَشَدَّ مِنْ سَابِقِهِ، وَتَغَيَّمَتْ رُؤْيَتُهُ قَبْلَ أَنْ يَجِدَ نَفْسَهُ فِي حِقْبَةٍ زَمَنِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ تَمَامًا.
وَجَدَ سَلِيمٌ نَفْسَهُ وَاقِفًا فِي سَاحَةٍ تَعُجُّ بِالْحَرَكَةِ، يَرْتَدِي النَّاسُ فِيهَا مَلَابِسَ غَرِيبَةً وَيَتَحَدَّثُونَ بِلُغَةٍ يَصْعُبُ عَلَيْهِ فَهْمُهَا. كَانَتِ الْعَادَاتُ وَالتَّقَالِيدُ مُخْتَلِفَةً عَمَّا أَلِفَهُ، وَشَعَرَ بِضَيَاعٍ وَارْتِبَاكٍ شَدِيدَيْنِ. وَهُنَا، تَعَلَّمَ سَلِيمٌ قِيمَةَ الصَّبْرِ وَالْمُثَابَرَةِ فِي الْبَحْثِ عَنِ الْمَعْرِفَةِ. قَضَىٰ وَقْتًا طَوِيلًا فِي مُرَاقَبَةِ النَّاسِ وَالِاسْتِمَاعِ إِلَىٰ حَدِيثِهِمْ، مُحَاوِلًا فَهْمَ كَلِمَاتِهِمْ وَتَفْسِيرَ إِيمَاءَاتِهِمْ. كَانَ يَرْسُمُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَرَاهَا فِي دَفْتَرِهِ، وَيُدَوِّنُ أَيَّ كَلِمَةٍ أَوْ عِبَارَةٍ يَسْمَعُهَا وَيَظُنُّ أَنَّهَا مُهِمَّةٌ.
وَبَيْنَمَا هُوَ يُقَلِّبُ صَفَحَاتِ كِتَابٍ قَدِيمٍ وَجَدَهُ فِي مَكْتَبَةٍ صَغِيرَةٍ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ، لَمَحَ رَمْزًا مَأْلُوفًا مُرْسُومًا بِشَكْلٍ خَافِتٍ فِي أَحَدِ الْهَوَامِشِ. كَانَ هُوَ الرَّمْزُ الْمُتَوَهِّجُ الَّذِي رَآهُ عَلَىٰ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ فِي مَكْتَبَةِ جَدِّهِ. أَدْرَكَ سَلِيمٌ أَنَّ هَذَا الرَّمْزَ هُوَ الْمِفْتَاحُ الَّذِي سَيُسَاعِدُهُ عَلَىٰ حَلِّ لُغْزِ الزَّمَنِ وَالْعَوْدَةِ إِلَىٰ مَكْتَبَةِ جَدِّهِ.
أَسْرَارُ الْغَابَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ
بِطَرْقَةٍ أُخْرَىٰ غَرِيبَةٍ، وَجَدَ سَلِيمٌ نَفْسَهُ وَاقِفًا أَمَامَ كِتَابٍ ذِي غِلَافٍ أَخْضَرَ بَاهِتٍ، تَزِينُهُ رُسُومٌ دَقِيقَةٌ لِنَبَاتَاتٍ وَأَزْهَارٍ مُلَوَّنَةٍ. لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكِتَابُ صَامِتًا كَالْبَاقِي، بَلْ كَانَ يَنْبُضُ بِحَيَاةٍ خَفِيَّةٍ، وَكَأَنَّهُ يَتَنَفَّسُ بِهُدُوءٍ. عِنْدَمَا لَمَسَهُ سَلِيمٌ، شَعَرَ بِطَاقَةٍ دَافِئَةٍ تَسْرِي فِي جَسَدِهِ، وَانْتَقَلَ بِسُرْعَةِ الْبَرْقِ إِلَىٰ عَالَمٍ آخَرَ.
وَجَدَ سَلِيمٌ نَفْسَهُ وَسَطَ غَابَةٍ سَاحِرَةٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ. كَانَتِ الْأَشْجَارُ الْعِمْلَاقَةُ تَتَهَامَسُ بِأَصْوَاتٍ خَافِتَةٍ كَأَنَّهَا تُفْشِي أَسْرَارًا قَدِيمَةً، وَالْحَيَوَانَاتُ الْبَرِّيَّةُ تَتَحَدَّثُ بِلُغَةٍ وَاضِحَةٍ وَمُفْهَمَةٍ. تَعَلَّمَ سَلِيمٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ لُغَةَ الطَّبِيعَةِ الْعَجِيبَةِ، وَأَدْرَكَ أَهَمِّيَّةَ الْحِفَاظِ عَلَىٰ الْبِيئَةِ وَالْعَيْشِ فِي وِئَامٍ مَعَ كُلِّ الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ.

لَكِنَّ الْغَابَةَ كَانَتْ مُهَدَّدَةً بِخَطَرٍ بِيئِيٍّ كَبِيرٍ. كَانَ هُنَاكَ تَلَوُّثٌ يُفْسِدُ الْمِيَاهَ وَيُؤْذِي النَّبَاتَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ. شَاهَدَ سَلِيمٌ الْحُزْنَ فِي عُيُونِ الْأَشْجَارِ وَالْخَوْفَ فِي نَظَرَاتِ الْحَيَوَانَاتِ، وَشَعَرَ بِوَاجِبِهِ فِي الْمُسَاعَدَةِ. تَعَلَّمَ أَنَّ الْعَمَلَ الْجَمَاعِيَّ وَالتَّعَاوُنَ هُمَا الْمِفْتَاحُ لِحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ الْكَبِيرَةِ وَإِنْقَاذِ الْعَالَمِ مِنْ حَوْلِنَا. عَمِلَ سَلِيمٌ مَعَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْأَشْجَارِ يَدًا بِيَدٍ لِإِيجَادِ حَلٍّ لِهَذِهِ الْمُشْكِلَةِ.
وَفِي خِضَمِّ هَذِهِ الْمُغَامَرَةِ، لَمَحَ سَلِيمٌ مِنْ بَعِيدٍ طَيْفًا لِرَجُلٍ عَجُوزٍ يَرْتَدِي نَظَّارَاتٍ سَمِيكَةً يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِنَظْرَةٍ قَلِقَةٍ مِنْ بَيْنِ الْأَشْجَارِ. أَدْرَكَ سَلِيمٌ أَنَّهُ جَدُّهُ حَكِيم، وَشَعَرَ بِأَنَّ جَدَّهُ يَعْرِفُ بِهَذِهِ الْمَغَامَرَاتِ وَيُرَاقِبُهُ مِنْ بَعِيدٍ. زَادَ هَذَا الْاِكْتِشَافُ مِنْ شُعُورِ سَلِيمٍ بِالْمَسْؤولِيَّةِ وَالْحِرْصِ عَلَىٰ إِتْمَامِ مُهِمَّتِهِ بِنَجَاحٍ.
مُوَاجَهَةُ الظِّلِّ الْعَابِثِ
بَيْنَمَا كَانَ سَلِيمٌ يَتَفَحَّصُ بِفُضُولٍ أَحَدَ الْأَرْفُفِ الْمُظْلِمَةِ فِي الْمَكْتَبَةِ، لَمَحَ كِتَابًا أَسْوَدَ صَغِيرًا مُنْزَوِيًا بَيْنَ الْمُجَلَّدَاتِ الْكَبِيرَةِ. لَمْ يَكُنْ لِلْكِتَابِ عُنْوَانٌ، وَكَانَ مُغْلَقًا بِقُفْلٍ فِضِّيٍّ بَارِدِ الْمَلْمَسِ. عِنْدَمَا اِقْتَرَبَ سَلِيمٌ مِنْهُ، شَعَرَ بِطَاقَةٍ مُظْلِمَةٍ تَنْبَعِثُ مِنْهُ، كَأَنَّهُ يَحْتَجِزُ سِرًّا خَطِيرًا.

فَجْأَةً، ظَهَرَتْ هَالاتٌ مُضِيئَةٌ حَوْلَ سَلِيمٍ، وَتَجَسَّدَتْ مِنْهَا أَشْبَاحٌ خَافِتَةٌ لِكُتُبِهِ الْمُفَضَّلَةِ: “هَمْسُ الصَّفَحَاتِ” بِغِلَافِهِ الْبَالِي، وَ “حَارِسُ الزَّمَنِ” بِصَفَحَاتِهِ الصَّفْرَاءَ، وَ “رُوحُ الْأَوْرَاقِ” بِأَغْصَانِهِ الْمُرْسُومَةِ. حَذَّرَهُ الثَّلَاثَةُ بِأَصْوَاتٍ مُرْتَجِفَةٍ: “لَا تَفْتَحْ هَذَا الْكِتَابَ يَا سَلِيم! إِنَّهُ يَحْتَوِي عَلَىٰ فَوْضَىٰ كَامِنَةٍ يُمْكِنُ أَنْ تُدَمِّرَ ت وَازُنَ الْمَكْتَبَةِ وَتُمَزِّقَ الرَّوَابِطَ بَيْنَ الْعَوَالِمِ!”
لَكِنَّ فُضُولَ سَلِيمٍ كَانَ أَقْوَىٰ مِنْ خَوْفِهِ. لَاحَظَ أَنَّ الرَّمْزَ الْفِضِّيَّ الْمُتَوَهِّجَ الَّذِي رَآهُ عَلَىٰ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ يَتَشَابَهُ بِشَكْلٍ غَرِيبٍ مَعَ ثُقْبِ الْمِفْتَاحِ فِي قُفْلِ “الظِّلِّ الْعَابِثِ”. وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، رَأَىٰ سَلِيمٌ جَدَّهُ حَكِيمًا يَتَسَلَّلُ إِلَىٰ الْمَكْتَبَةِ بِنَظْرَةٍ مُرْتَبِكَةٍ وَيُحَاوِلُ إِخْفَاءَ الْكِتَابِ الْأَسْوَدِ بِعَصَبِيَّةٍ خَلْفَ مَجْمُوعَةٍ مِنْ الْمُجَلَّدَاتِ الْكَبِيرَةِ. أَدْرَكَ سَلِيمٌ أَنَّ جَدَّهُ يَخْفِي سِرًّا مُهِمًّا حَوْلَ هَذَا الْكِتَابِ الْمُشْؤُومِ.
تَسَلَّلَ سَلِيمٌ بِهُدُوءٍ وَاقْتَرَبَ مِنَ الْكِتَابِ الْأَسْوَدِ. رَفَعَهُ بِحَذَرٍ وَحَاوَلَ فَتْحَ الْقُفْلِ، لَكِنَّهُ وَاجَهَ مُقَاوَمَةً قَوِيَّةً. كَانَ الْقُفْلُ مُعَقَّدًا وَيَبْدُو كَأَنَّهُ يَنْبِضُ بِطَاقَةٍ سِحْرِيَّةٍ مُضَادَّةٍ. وَفِي سِبَاقٍ مَعَ الْوَقْتِ، قَبْلَ أَنْ يَعُودَ جَدُّهُ أَوْ يَصِلَ أَحَدٌ آخَرُ (رُبَّمَا قُوَّةٌ شِرِّيرَةٌ مُرْتَبِطَةٌ بِالْكِتَابِ)، بَدَأَ سَلِيمٌ يُفَكِّرُ بِسُرْعَةٍ. اِسْتَخْدَمَ كُلَّ الْمَهَارَاتِ وَالْمَعْرِفَةِ الَّتِي اِكْتَسَبَهَا فِي مُغَامَرَاتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ: شَجَاعَةَ الْقَرَاصِنَةِ فِي مُوَاجَهَةِ الْمَخَاطِرِ، وَصَبْرَ الْمُؤَرِّخِ فِي حَلِّ الْأَلْغَازِ، وَفَهْمَهُ لِلُغَةِ الطَّبِيعَةِ فِي تَفْسِيرِ الْإِشَارَاتِ الْخَفِيَّةِ فِي الْقُفْلِ. كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَجِدَ الطَّرِيقَ لِفَتْحِ هَذَا الْقُفْلِ الْمُعَقَّدِ قَبْلَ أَنْ يَفُوتَ الْأَوَانُ.

اَلنِّهَايَةُ: حُرَّاسُ الْبَوَّابَةِ
بِذَكَائِهِ وَشَجَاعَتِهِ، وَبِمُسَاعَدَةِ الْهَمَسَاتِ الْخَفِيَّةِ مِنْ “هَمْسِ الصَّفَحَاتِ” وَنَصَائِحِ “حَارِسِ الزَّمَنِ” وَفَهْمِ “رُوحِ الْأَوْرَاقِ”، تَمَكَّنَ سَلِيمٌ فِي النِّهَايَةِ مِنْ إِغْلَاقِ قُفْلِ “الظِّلِّ الْعَابِثِ”، أَوْ رُبَّمَا حَتَّىٰ تَرْوِيضِ الطَّاقَةِ الْمُظْلِمَةِ الْكَامِنَةِ فِيهِ بِوَضْعِهِ بَيْنَ مُجَلَّدَيْنِ قَدِيمَيْنِ مُقَدَّسَيْنِ. شَعَرَ بِارْتِيَاحٍ كَبِيرٍ يَعُمُّ الْمَكْتَبَةَ، وَتَوَقَّفَ التَّوَهُّجُ الْمُرْعِبُ الْمُنْبَعِثُ مِنْهُ.

عَادَ سَلِيمٌ إِلَىٰ وَاقِعِ الْمَكْتَبَةِ، لِيَجِدَ جَدَّهُ حَكِيمًا يَنْتَظِرُهُ بِابْتِسَامَةٍ حَزِينَةٍ وَعَيْنَيْنِ تَمْتَلِئَانِ بِالْفَخْرِ وَالْقَلَقِ. تَقَدَّمَ الْجَدُّ وَوَضَعَ يَدَهُ الْعَجُوزَ عَلَىٰ كَتِفِ سَلِيمٍ الصَّغِيرِ، وَكَشَفَ لَهُ سِرًّا عَائِلِيًّا عُمْرُهُ قُرُونٌ: “يَا بُنَيَّ، هَذِهِ الْمَكْتَبَةُ هِيَ إِرْثُنَا، وَالْكُتُبُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قِصَصٍ، بَلْ هِيَ بَوَّابَاتٌ تَمَّ إِنْشَاؤُهَا لِحِمَايَةِ عَوَالِمَ مُخْتَلِفَةٍ وَمَنْعِ الْفَوْضَىٰ مِنْ الِانْتِشَارِ. وَالرَّمْزُ الْمُتَوَهِّجُ هُوَ مِفْتَاحُ هَذِهِ الْبَوَّابَاتِ وَسِرُّ اسْتِقْرَارِهَا.”
فَهِمَ سَلِيمٌ الْمَسْؤولِيَّةَ الْعَظِيمَةَ الْمُلْقَاةَ عَلَىٰ عَاتِقِهِ. نَظَرَ إِلَىٰ جَدِّهِ بِعَيْنَيْنِ لَامِعَتَيْنِ وَقَالَ بِحَمَاسَةٍ: “سَنَعْمَلُ مَعًا يَا جَدِّي كَحَارِسَيْنِ لِهَذِهِ الْمَكْتَبَةِ السِّحْرِيَّةِ!” فَابْتَسَمَ الْجَدُّ بِفَرَحٍ وَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ مُوَافِقًا. قَرَّرَا أَنْ يَتَعَاوَنَا فِي مُشَارَكَةِ بَعْضِ الْقِصَصِ الْآمِنَةِ وَالْمُلْهِمَةِ مَعَ أَطْفَالٍ آخَرِينَ لِغَرْسِ حُبِّ الْقِرَاءَةِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، مَعَ الْحِفَاظِ عَلَىٰ سِرِّ “الظِّلِّ الْعَابِثِ” وَالْعَوَالِمِ الْأَكْثَرِ خَطَرًا بَعِيدًا عَنِ الْأَيْدِي الْعَابِثَةِ.

فِي نِهَايَةِ تِلْكَ الْمُغَامَرَةِ الْعَجِيبَةِ، نَظَرَ سَلِيمٌ إِلَىٰ الرُّفُوفِ الْمَلِيئَةِ بِالْكُتُبِ بِعَيْنَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ. لَمْ تَعُدْ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ مَطْبُوعَةٍ عَلَىٰ وَرَقٍ، بَلْ أَصْبَحَتْ أَبْوَابًا سِحْرِيَّةً تَنْتَظِرُ مَنْ يَجْرُؤُ عَلَىٰ فَتْحِهَا وَالْغَوْصِ فِي عَوَالِمِهَا الْمُدْهِشَةِ. وَعَرَفَ سَلِيمٌ أَنَّ مُغَامَرَاتِهِ فِي الْمَكْتَبَةِ السِّحْرِيَّةِ قَدْ بَدَأَتْ فَقَطْ.
