مقدمة المقال: تدريس الفلسفة في الطور الابتدائي بتونس: نحو تأسيس ثقافة التفكير الناقد في مشروع تجديد المناهج
يشهد النظام التربوي التونسي في السنوات الأخيرة دعوات متكرّرة إلى تجديد المناهج الدراسية، استجابة لتحولات المجتمع ومتطلبات المستقبل. وفي هذا السياق، يطرح إدراج الفلسفة في الطور الابتدائي تحدياً إصلاحياً عميقاً يلامس جوهر العملية التربوية، ويعيد الاعتبار لوظيفة المدرسة في تكوين الفرد المفكر، لا المتلقي السلبي. فهل آن الأوان لتُدمَج الفلسفة ضمن المشروع الوطني لإصلاح التعليم الأساسي؟ هذا المقال يقدّم مرافعة أكاديمية تؤسس لضرورة هذا التوجّه في السياق التربوي التونسي.
أولاً: الفلسفة كرافعة للتربية على التفكير
تُعرف الفلسفة، في أحد تعريفاتها التربوية، بأنها “تفكير في التفكير”، ما يجعلها أداة فعّالة في ترسيخ مهارات التحليل، النقد، وطرح الأسئلة الجوهرية لدى المتعلّمين. وبدل أن تظل حكراً على التعليم الثانوي أو العالي، يمكن تكييف مبادئها لتتلاءم مع الطور الابتدائي، من خلال اعتماد مقاربات قصصية، حوارية، وتجريبية. وقد أثبتت تجارب عالمية، مثل تجربة ماثيو ليبمان في الولايات المتحدة، نجاح تدريس الفلسفة للأطفال في تنمية مهاراتهم التواصلية والمنطقية، وتعزيز ثقتهم في آرائهم.
ومن أهم ما تقدمه الفلسفة للطفل أنها تساعده على التساؤل حول المعنى: معنى الصداقة، معنى الخير، معنى الاختلاف، وهي تساؤلات تنبع من صلب الحياة اليومية للطفل ولا تتطلب مفاهيم معقدة. هذا التدرّج من الواقع المعيشي إلى التفكير المجرد هو ما يجعل الفلسفة ممكنة ومجدية منذ المراحل الأولى للتعليم.

ثانياً: الواقع التونسي ومقتضيات التغيير
تعاني المدرسة الابتدائية التونسية، رغم ما تحقق من تعميم التعليم، من أزمات متكررة في المناهج، والمحتويات، وأساليب التدريس، حيث يهيمن التلقين على حساب التفكير الحر، وتُقصى القيم الفلسفية لصالح حفظ المعلومات. كما أن التحديات التي يواجهها الناشئة اليوم – من تنامي العنف، إلى انتشار التفكير الخرافي، وتراجع الحس النقدي – تقتضي إعادة النظر في طبيعة المواد المقرّرة، وفسح المجال لتجربة تعلّمية تُمكّن الطفل من فهم ذاته، ومحيطه، واكتساب أدوات النقاش والتفكير المستقل.
في هذا السياق، لا بدّ من مساءلة المنظومة التربوية التونسية حول مدى استعدادها للانتقال من نموذج التلقين المعرفي إلى نموذج البناء الفكري، حيث يصبح المتعلم فاعلاً في إنتاج المعنى، لا مجرد متلقٍ له. وتُعدّ الفلسفة، هنا، أداةً مركزية لإعادة هندسة المناهج التعليمية بما يستجيب للتحولات الاجتماعية والثقافية.
ثالثاً: مبررات إدراج الفلسفة في الطور الابتدائي
- تنمية التفكير الناقد والقدرة على الحوار: من خلال النقاشات الصفية حول مفاهيم بسيطة كالصداقة، العدالة، الحرية، يمكن للطفل أن يكوّن مواقف مدروسة ويعبّر عنها بطريقة سليمة.
- تحصين الناشئة ضد الفكر المتطرف: الفلسفة تدرّب الطفل على التفكير المنهجي، والتساؤل المشروع، والتحقق من المعلومات، ما يجعله أكثر قدرة على رفض الخطابات الإقصائية والتأويلات المغلقة للعالم.
- تعزيز القيم الديمقراطية: مثل احترام الرأي الآخر، والتفكير الجماعي، والمشاركة في اتخاذ القرار، وهي قيم ضرورية لمجتمع تعددي حديث كالمجتمع التونسي.
- الانفتاح على الذات والآخر: الطفل الذي يتعلّم أن يسأل ويصغي ويعيد التفكير، هو طفل منفتح على العالم، قادر على تجاوز الانغلاق والهويات المتصلبة.
- إعادة الاعتبار للمدرسة كمختبر للحرية: إذ تصبح الفلسفة وسيلة لتحويل القسم من فضاء للسلطة العمودية إلى ساحة حوار أفقية.
رابعاً: التجارب الدولية في فلسفة الأطفال
شهد العالم منذ نهاية القرن العشرين تطوراً ملحوظاً في ما يُعرف بـ”الفلسفة للأطفال” (Philosophy for Children – P4C). وقد انطلقت التجربة من الولايات المتحدة بفضل الفيلسوف التربوي ماثيو ليبمان، الذي لاحظ أن الطلبة الجدد في الجامعات يفتقرون إلى مهارات التفكير الناقد، فاقترح إدراج الفلسفة منذ الطفولة لتلافي هذا القصور.
توسعت التجربة لتشمل كندا، بريطانيا، أستراليا، وفرنسا، حيث تم تطوير وحدات دراسية تتماشى مع المرحلة العمرية للطفل، وتقوم على قصص فلسفية، تليها حلقات نقاش بإشراف المعلّم. وقد أثبتت الدراسات أن الأطفال الذين يتلقون دروسًا في الفلسفة يُظهرون تطورًا واضحًا في المهارات اللغوية، والتفكير المجرد، والعمل الجماعي.
خامساً: تحديات إدراج الفلسفة في تونس
رغم وجاهة الطرح، فإن إدراج الفلسفة في التعليم الابتدائي بتونس يواجه تحديات عدة:
- مقاومة بعض الفاعلين التربويين الذين يرون في الفلسفة مادة صعبة أو غير مناسبة للأطفال.
- نقص التكوين البيداغوجي للمعلمين في هذا المجال، ما يتطلب برامج إعداد خاصة.
- ازدحام البرامج الدراسية الحالية، مما يفرض التفكير في إعادة هيكلة المنظومة ككل.
- غياب المحتوى المحلي التونسي في مجال الفلسفة للأطفال، وهو ما يستوجب إنتاج مواد تعليمية أصيلة تتماشى مع البيئة الثقافية للطفل التونسي.
سادساً: خطوات عملية نحو دمج الفلسفة في التعليم الابتدائي
- إدماج تدريجي للفلسفة داخل حصص التعبير الشفوي أو التربية المدنية، دون إثقال البرنامج.
- تكوين المربين على استعمال منهجيات التفكير النقدي، وتدريبهم على تنشيط حلقات النقاش.
- إعداد وحدات قصصية فلسفية بالدارجة أو بالعربية الفصحى المبسطة، تطرح قضايا وجودية أو أخلاقية قريبة من حياة الطفل.
- تشجيع البحث التربوي حول أثر الفلسفة على سلوك الأطفال وتحصيلهم.
- بناء شراكات بين وزارتي التربية والثقافة لتوفير دعم مادي ومرجعي لهذا التوجه.

خاتمة
يمثّل تدريس الفلسفة في الطور الابتدائي بتونس خطوة جريئة نحو مدرسة تزرع في الناشئة أدوات الفهم، لا مجرد المعلومات. إن إدماج التفكير الفلسفي في سن مبكرة ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة تربوية في زمن تزداد فيه الحاجة إلى عقول تسائل، وتحلل، وتبني وعياً نقدياً متماسكاً. وإذا كانت الفلسفة قد ساهمت في تشكيل الفكر الإنساني عبر العصور، فقد آن الأوان لأن تصبح أداة في أيدي الأطفال أنفسهم، يواجهون بها تعقيدات العالم، ويصوغون بها ذواتهم الحرة.
ولكي يتحقق هذا الطموح، لا بد من إرادة سياسية، وخطة تربوية واضحة، وتعاون متعدد الأطراف، ينقل الفلسفة من الأبراج العاجية إلى مقاعد الصفوف الابتدائية، حيث تتفتح العقول وتُصاغ المعاني الأولى للحرية.
بارك الله فيك
يعيشك أستاذة