جميع الحقوق محفوظة لعماد إيلاهي. يُمنع نسخ أو إعادة نشر أي جزء من هذا الموقع بأي وسيلة دون إذن كتابي مسبق.

هذا المقال محمي بموجب قانون حماية الملكية الفكرية

1. مقدمة

رغم مرور أكثر من ستة عقود على الاستقلال السياسي لتونس، فإنّ استقلالها المعرفي لا يزال منقوصًا، خاصة في المجال التربوي. فقد ظلّت المناهج التعليمية، في أغلب مستوياتها، إما مستوردة صراحة أو مستنسخة ضمن نماذج مرجعية أجنبية لا تراعي الخصوصيات الثقافية واللغوية والاجتماعية للبيئة التونسية. وقد أسهم هذا الوضع في ترسيخ أنماط تفكير مُغتربة عن الواقع المحلي، وأضعف قدرة المتعلّم على فهم ذاته ومحيطه، كما عمّق الفجوة بين المدرسة والمجتمع.

إن استمرار التبعية المعرفية، في ظل العولمة، لا يُعدّ مجرد قصورٍ منهجي، بل يمثل تهديدًا للسيادة الوطنية في معناها الشامل، باعتبار أن من يتحكم في المعرفة يتحكم في الوعي، ومن يتحكم في الوعي يُعيد تشكيل المجتمعات وفق مصالحه ورؤاه. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة الماسة إلى إعادة بناء المناهج التربوية انطلاقًا من رؤية وطنية مستقلة، تستند إلى مقاربة تفكيك التبعية للمناهج الأجنبية (Curriculum Decolonization)، وتسعى إلى استعادة المبادرة في إنتاج المحتوى التعليمي.

وعليه، يقترح هذا المقال مشروعًا استراتيجيًا يتمثل في إنشاء مؤسسة وطنية مستقلة تُعنى بإعادة صياغة المناهج من الداخل، وهي: المعهد الوطني للمناهج التونسية، باعتبارها آلية حيوية لتحقيق السيادة المعرفية وتحرير الوعي الجماعي التونسي من التمثّلات المفروضة.

2 1
نحو تحقيق السيادة المعرفية الوطنية: مقترح بإنشاء المعهد الوطني للمناهج التونسية - الاستاذ عماد إيلاهي 9

2. الإطار النظري: السيادة المعرفية ومقاربة تفكيك التبعية

2.1 مفهوم السيادة المعرفية

تُعدّ السيادة المعرفية أحد أركان السيادة الوطنية الحديثة، حيث تشير إلى قدرة مجتمع ما على إنتاج المعرفة وتكييفها وترويجها وفقًا لمرجعيته الحضارية والتاريخية واللغوية، وبما يخدم أولوياته التنموية ورؤاه المجتمعية. وهي لا تعني الانغلاق أو القطيعة مع المعارف الكونية، بل تعني التحرّر من التبعية المعرفية ومن استهلاك النماذج الجاهزة دون تمحيص. فالمجتمع الذي لا يتحكم في أدواته المعرفية ولا يساهم في صياغة برامجه التعليمية من داخل بنيته الثقافية، يظل عرضة للهيمنة الخارجية، حتى وإن امتلك استقلالًا سياسيًا شكليًا.

2.2 مقاربة تفكيك التبعية المناهجية (Curriculum Decolonization)

تندرج هذه المقاربة ضمن الحركات التربوية النقدية، وتهدف إلى تحرير المناهج التعليمية من المركزية الأوروبية والغربية التي فرضت تمثلاتها وتصوراتها للعالم على باقي الثقافات. وهي دعوة إلى مراجعة شاملة لأسس المناهج، ومحتوياتها، وطرائق تدريسها، بحيث تُعاد صياغتها انطلاقًا من خصوصيات البيئة المحلية – ثقافيًا، لغويًا، واجتماعيًا – بما يُمكّن المتعلم من التفكير بلغته، والتفاعل مع محيطه الواقعي، واستيعاب المعرفة ضمن سياقٍ يُعبّر عنه هو، لا عنه الآخر.

وتقتضي هذه المقاربة استثمار الرأسمال الرمزي الوطني، من أدب وفكر وتاريخ ومعارف محلية، كمصادر أساسية لبناء المناهج، مع الانفتاح النقدي على المعارف الكونية. وهي لا تُقصي ما هو خارجي، بل تُعيد تأطيره وفق منظور يضمن التمكين المعرفي المحلي، ويجعل المتعلم فاعلًا لا متلقيًا، ومُنتِجًا للمعنى لا مجرّد ناقل له.

3. مقترح المشروع: المعهد الوطني للمناهج التونسية

3.1 تعريف المشروع

يُقترح إنشاء المعهد الوطني للمناهج التونسية كمؤسسة وطنية مستقلة تُعنى بتطوير السياسات التربوية والمناهج التعليمية انطلاقًا من رؤية سيادية شاملة. يُحدث المعهد بموجب قانون خاص، ويوضع تحت إشراف مشترك بين وزارة التربية ووزارة التعليم العالي، مع ضمان استقلاليته الأكاديمية والإدارية من خلال هيئة علمية ذات طابع مستقل، ومجلس توجيهي يتكوّن من مختصين في مجالات التربية، واللسانيات، والفلسفة، والعلوم الاجتماعية، والتاريخ، والاقتصاد، والفنون.

وتهدف هذه البنية إلى تأمين الحوكمة الرشيدة في صياغة المناهج، بعيدًا عن الضغوط السياسية الظرفية أو الإملاءات الخارجية، بما يجعل من المعهد مرجعًا وطنيًا موثوقًا في إصلاح التعليم.

3.2 أهداف المعهد

يرتكز المعهد الوطني للمناهج التونسية على جملة من الأهداف الاستراتيجية، من أبرزها:

  • بناء مناهج وطنية متجذّرة في الهوية الحضارية التونسية: تُعيد ربط المتعلم بتاريخه، وثقافته، وبيئته الطبيعية والاجتماعية، بما يعزز انتماءه الوطني وتوازنه الشخصي.
  • توطين المفاهيم التربوية والمعرفية: من خلال إنتاج محتوى أصيل، ومراجعة المفاهيم التربوية المستوردة، وتكييفها بما يلائم الخصوصيات المحلية.
  • استعادة الدور التربوي في تشكيل الوعي الجماعي: وذلك عبر مناهج تُعلي من قيم التفكير النقدي، الذوق الفني، الروح المدنية، والخيال الإبداعي، بوصفها أدوات تكوين المواطن الحرّ والمسؤول.
  • إشراك النخب العلمية الوطنية داخل تونس وخارجها: من خلال إنشاء شبكة أكاديمية مفتوحة على الكفاءات التونسية المهاجرة، بما يُعيد ربط العقول بالخدمة العمومية الوطنية.
1 1
نحو تحقيق السيادة المعرفية الوطنية: مقترح بإنشاء المعهد الوطني للمناهج التونسية - الاستاذ عماد إيلاهي 10

4. المهام الأساسية للمعهد الوطني للمناهج التونسية

يتولى المعهد الوطني للمناهج التونسية مهامّ جوهرية تُشكّل ركيزة لإصلاح المنظومة التربوية من الداخل، وفق مقاربة سيادية تراعي خصوصيات المجتمع التونسي وتحدياته المعرفية والاقتصادية والثقافية.

4.1 تطوير محتوى يعكس الهوية الوطنية

يُعتبر تطوير محتوى دراسي يُجسّد الهوية الوطنية من المهام المركزية للمعهد، ويشمل ذلك:

  • إدماج العناصر الثقافية التونسية: من خلال تضمين اللغة العامية الفصيحة، والتاريخ المحلي، والجغرافيا الوطنية، والمأثورات الشعبية (الشفوية والمكتوبة) في الكتب المدرسية، بما يُعيد للتلميذ علاقته المباشرة بمحيطه الرمزي.
  • تكييف المحتوى مع السياق التونسي: بإعادة كتابة نصوص القراءة، والوضعيات التعليمية، والأمثلة الحسابية وغيرها، بما يعكس الواقع المحلي ويُقرّب المفاهيم من المتعلم.
  • الاستثمار في الأدب والفن التونسيين: عبر اعتماد نصوص أدبية وفنية من إنتاج تونسيين قدامى ومعاصرين، تُغني الذوق وتحفّز الهوية.

4.2 مراجعة المناهج القديمة في ضوء السيادة الفكرية

يقوم المعهد بمراجعة نقدية للمناهج التربوية الحالية من حيث مرجعياتها وخطابها وأدواتها، وذلك من خلال:

  • تحليل ارتباط المناهج بالواقع التونسي: لتحديد مدى ملاءمتها للسياق الاجتماعي والثقافي المحلي.
  • تنقيح المضامين ذات المرجعية المفروضة: بالتخلّص من المحتويات التي تكرّس نماذج فكرية أو قيمية غريبة عن السياق التونسي أو تُقدَّم بمعزل عن النقد.
  • تعزيز القدرات التفكيرية والتحليلية: عبر تجاوز النماذج التلقينية، والتركيز على مهارات التفكير النقدي، وربط المعارف بالحياة اليومية، وتمكين المتعلمين من أدوات الفهم لا مجرد حفظ المحتوى.

4.3 إشراك الكفاءات التونسية في الداخل والخارج

يُراهن المعهد على تعبئة الطاقات العلمية الوطنية من أجل مشروع منهجي جماعي، وذلك عبر:

  • التعاون مع الجامعات ومراكز البحث الوطنية: من خلال مشاريع تطوير مناهج مشتركة، وأطر تكوين مستمرة للأساتذة والمربين.
  • استقطاب الكفاءات التونسية بالخارج: بإحداث آليات رقمية تتيح المشاركة عن بعد، أو بعقد شراكات بحثية لتثمين خبراتهم في تطوير السياسات المنهجية.
  • تنظيم ملتقيات وطنية دورية: تجمع المختصين في التربية والفكر والثقافة لطرح السياسات التعليمية ومراجعتها وتقييمها.

5. أثر المشروع على المنظومة التربوية

إنّ إحداث المعهد الوطني للمناهج التونسية لا يُمثل مجرّد إصلاح تقني للمحتوى التعليمي، بل هو مشروع تحوّلي شامل يُعيد تشكيل العلاقة بين المدرسة والمجتمع، ويُؤسس لمنظومة تربوية ذات سيادة معرفية حقيقية. ومن أبرز الآثار المتوقعة:

5.1 إعادة الاعتبار للمعلّم كمثقف لا كمجرّد ناقل معرفة

سيساهم هذا المشروع في الارتقاء بصورة المعلّم من مجرّد منفّذ لبرامج جاهزة إلى فاعل تربوي مثقف، مشارك في إنتاج المعرفة التربوية، وقادر على تأويل المناهج والتصرف فيها بما يخدم بيئته الصفية ومحيطه الثقافي.

5.2 تنشئة أجيال تفكر انطلاقًا من واقعها وتسهم في تطويره

بفضل مناهج مستندة إلى المرجعية المحلية، سيتمكن المتعلم من التفكير بلغته وداخل سياقه، ما يُعزز قدرته على فهم مشكلاته الواقعية، واقتراح حلول مبتكرة، والانخراط في ديناميكية مجتمعية ذات طابع نقدي وبنّاء.

5.3 تقوية الانتماء الوطني والمناعة الفكرية لدى التلاميذ

عبر توطين المحتوى التربوي، تُصبح المدرسة فضاءً لإعادة إنتاج الهوية، وتعزيز الانتماء، ومقاومة الاختراق الثقافي الذي قد يحدث عبر مناهج مفرغة من الخصوصية. بذلك يُنمّى الوعي النقدي والمناعة الفكرية في وجه الهيمنة المعرفية الناعمة.

5.4 التمهيد لاقتصاد معرفة وطني مستقل

من خلال دعم الابتكار المعرفي، وتكوين أجيال قادرة على التفكير الإنتاجي لا الاستهلاكي، يُعدّ هذا المشروع خطوة استراتيجية نحو اقتصاد وطني مبني على المعرفة المحلية لا على استيراد التكنولوجيا والبرامج الجاهزة، مما يعزز السيادة الاقتصادية والعلمية لتونس.

6. تحديات التنفيذ وسبل تجاوزها

إنّ نجاح مشروع المعهد الوطني للمناهج التونسية لا يقتصر على وضوح أهدافه أو عمق مقاربته الفكرية، بل يتوقف أيضًا على مدى القدرة على مواجهة التحديات البنيوية والثقافية التي قد تعيق تجسيده على أرض الواقع. ومن أبرز هذه التحديات:

6.1 الهيمنة الثقافية العالمية

تُعدّ الهيمنة الرمزية والمعرفية للمنظومات التربوية الغربية تحدّيًا جوهريًا، إذ تكرّس نماذج معرفية تُقدّم بوصفها “كونية”، وتُقصي المقاربات المحلية. ولتجاوز هذا التحدّي، يُصبح من الضروري المثابرة على بناء خطاب تربوي بديل، يمتلك مشروعيته العلمية والثقافية، ويُدافع عن جدوى التعدد المرجعي والتأصيل المعرفي.

6.2 ضعف التمويل والدعم اللوجستي

يُواجه المشروع خطر التجميد أو التحوير إذا لم يُحط بدعم مالي وإداري مستقر.

ويُمكن تجاوز هذا التحدّي عبر بناء شراكات ذكية مع المجتمع المدني، والنقابات التربوية، والمنظمات الوطنية، بما يُؤمّن قاعدة دعم مجتمعي للمشروع، ويُخفّف من العبء على ميزانية الدولة.

6.3 البيروقراطية الإدارية

غالبًا ما تُعيق الإجراءات البيروقراطية إحداث مؤسسات ذات طابع تجديدي.

ولتفادي هذا الخطر، ينبغي إرساء استقلال فعلي للمعهد، وذلك من خلال قانون تأسيسي يُخوّله صلاحيات تنفيذية واضحة، ويُحرّره من التبعية الإدارية المباشرة، مع ضمان الرقابة والمساءلة الديمقراطية.

7. خاتمة وتوصيات

إنّ إنشاء المعهد الوطني للمناهج التونسية يُعدّ خطوة استراتيجية هامة نحو استعادة السيادة المعرفية الوطنية في منظومتنا التربوية.

لا يُمثل هذا المشروع مجرد إصلاح إداري أو مؤسسي، بل هو بمثابة مشروع حضاري طويل الأمد يُؤسّس لمستقبل من التعليم يولي الأولوية لثقافتنا وهويتنا، ويُعزز قدرة الأجيال القادمة على التفكير النقدي والتفاعل مع العالم وفقًا لمنظور محلي نابع من عمق الواقع التونسي.

إنّ المعهد يمثل فرصة حقيقية لإعادة البناء من خلال مراجعة المناهج والمحتوى التعليمي بحيث يُعبر عن تطلعات الشعب التونسي ورؤيته للعلم والمعرفة.

في ضوء هذا التوجه الاستراتيجي، يُوصى بما يلي:

  • التعجيل بتشريع قانون لإحداث المعهد: من خلال وضع إطار قانوني يضمن استقلاليته العلمية والإدارية، ويُحدد مهامه وصلاحياته بشكل واضح.
  • اعتماد مقاربة تشاركية في بناء المناهج الجديدة: عبر إشراك كافة الأطراف الفاعلة من أكاديميين، معلمين، وجمعيات تربوية في صياغة المحتوى التعليمي، مما يُضمن توافقًا واسعًا على أهداف المعهد.
  • تقييم السياسات التربوية دوريًا: يُنصح بوضع آلية لتقييم شامل ودوري لمدى تحقق أهداف السيادة المعرفية في المناهج التربوية، والتأكد من ملاءمتها للواقع التونسي المتغير.

إنّ المعهد الوطني للمناهج التونسية لا يُعدّ مجرّد مؤسسة تربوية، بل هو نواة لحركة فكرية وثقافية تتجاوز حدود الصف الدراسي، لتؤثر في بنية المجتمع ككل.

Oig1.Drk8Q1J6Mjfs
نحو تحقيق السيادة المعرفية الوطنية: مقترح بإنشاء المعهد الوطني للمناهج التونسية - الاستاذ عماد إيلاهي 11

📚 المراجع

  • Freire, P. (1970). Pedagogy of the Oppressed. Continuum.
  • Smith, L. T. (1999). Decolonizing Methodologies: Research and Indigenous Peoples. Zed Books.
  • وزارة التربية التونسية. (2022). الإصلاح التربوي في تونس: تقييم وآفاق.
  • Foucault, M. (1971). The Archaeology of Knowledge. Pantheon Books.
  • Grosfoguel, R. (2007). The Epistemic Decolonial Turn. Cultural Studies, 21(2-3), 211-223.
  • Mignolo, W. D. (2007). The Darker Side of the Renaissance: Literacy, Territoriality, and Colonization. University of Michigan Press.

عماد إيلاهي

Shares:
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *