Contents
المقدمة:
إن الحديث عن جودة التعليم في السياق التونسي لا يمكن أن يتم بمعزل عن تفكيك المقاربات البيداغوجية التي اعتمدت في مسار الإصلاح التربوي، وخاصة ما سُمّي بـ”المقاربة بالكفايات” التي تم تبنّيها رسميًا منذ إصلاح 2002. فقد جاءت هذه المقاربة، نظريًا، محمّلة بوعود التغيير الجذري للممارسات التربوية، مدفوعة بتصورات معرفية معاصرة، مستلهمة من النظريات السوسيوبنائية ونظرية الذكاءات المتعددة، موجهة بالأساس نحو تنمية قدرات المتعلم في التفكير، التحليل، المبادرة، والإبداع، لا مجرد حفظ المعلومات واسترجاعها. غير أنّ الممارسة الفعلية داخل الفصول الدراسية التونسية كشفت عن هوّة شاسعة بين الخطاب التربوي المعلن والتطبيق اليومي، مما أفقد هذه المقاربة جوهرها، وحوّلها إلى شعارات جوفاء.

الكفايات: عمق نظري وإفلاس تطبيقي
المقاربة بالكفايات ليست مجرد تقنية تدريسية، بل هي تصوّر شامل للتعلّم، يقوم على فكرة أن المتعلم ليس مستقبلًا سلبيًا للمعرفة، بل فاعل نشط في بناء معارفه، عبر أنشطة مركّبة تنقله من التمكن إلى التوظيف، ومن التكرار إلى الحلّ. لكنّ الإشكال الجوهري في تونس لم يكن في المفهوم ذاته، بل في ضعف التملّك المؤسساتي له، وغياب الأرضية الثقافية والبيداغوجية الضرورية لتفعيله.
على سبيل المثال، في البرنامج الرسمي لتدريس اللغة العربية بالسنة الخامسة من التعليم الابتدائي، نجد أهدافًا صريحة تندرج تحت مظلة الكفايات، من قبيل: “القدرة على إنتاج فقرة سردية موظّفًا أدوات الربط والتسلسل المنطقي للأحداث”، أو “القدرة على تحليل النصوص واستنتاج المعاني الضمنية”. لكن عند التمحيص في الوثائق التوجيهية المصاحبة، نجد التوصيات تنزلق نحو التركيز على مؤشرات سلوكية جامدة، مثل “يذكر الشخصيات”، “يرتّب الأحداث”، أو “يعرف نوع النص”، وهو ما يعيدنا إلى المقاربة بالأهداف، لا بالكفايات. فبدل أن ندرّب المتعلم على بناء المعنى، نختبره في التعرف على عناصر ظاهرية لا تنمّ بالضرورة عن فهم حقيقي للنص أو توظيفه.
بنية تحتية متآكلة وممارسات تقليدية
من الأسباب الجوهرية لفشل المقاربة بالكفايات في تونس، هشاشة البيئة المدرسية التي تحتضن عملية التعلّم. فكيف يمكن تنمية كفايات التفكير النقدي وحلّ المشكلات في فصول دراسية مكتظة، يراوح عدد المتعلمين فيها بين 35 و40 أحيانًا؟ كيف نمارس بيداغوجيا الإدماج في مؤسسات تعاني من نقص في الوسائل التعليمية الأساسية، ومن غياب مختبرات وتجهيزات تكنولوجية؟ بل كيف نطلب من المدرّس أن يؤطّر مشاريع تعلمية نشيطة في ظل جدول زمني مكثّف ومحتويات دراسية مثقلة بتفريعات غير وظيفية؟
يكفي أن نطّلع على برنامج الرياضيات للسنة السادسة من التعليم الابتدائي، لنجد أن المتعلم مدعوّ إلى التمكن من مفاهيم متقدمة في القياس، الكسور، الأعداد العشرية، والعمليات الأربع، إلى جانب حلّ مسائل مركّبة. غير أن واقع الحال يُظهر أن أغلب المدرسين، تحت ضغط الكمّ والزمن، يختزلون التعلمات إلى تمارين تقليدية محفوظة، تُدرَّس بالأسلوب الإلقائي القديم، مع تغييب شبه كليّ للتعلمات النشطة والمشكلات الإدماجية التي من المفترض أن تكون جوهر هذه المقاربة.
ازدواجية المرجعية التربوية: بين الكفايات والأهداف
الازدواجية المنهجية: أزمة الهوية البيداغوجية في التعليم التونسي
تُعدّ الازدواجية المنهجية التي يعاني منها التعليم التونسي من أكثر الإشكاليات عمقًا وتأثيرًا، ليس فقط على مستوى التخطيط البيداغوجي، بل كذلك على صعيد التصورات الفلسفية التي تؤطر العملية التعليمية التعلمية برمتها. فبينما يُعلن الخطاب الرسمي التزامه بالمقاربة بالكفايات باعتبارها خيارًا استراتيجيًا منذ إصلاح 2002، تتكشّف الممارسة التربوية اليومية عن عودة متكررة إلى المقاربة بالأهداف، في تمثّلها السلوكي الضيق والمتحجّر.
لقد أحدث هذا التناقض اضطرابًا عميقًا في هوية المدرسة التونسية، حيث بات المدرّسون يتأرجحون بين خطابين متناقضين، أحدهما يدعو إلى تنمية الكفايات المركّبة، والآخر يقيّد الفعل التربوي بهدف سلوكي محدد بدقة، يُختزل غالبًا في معرفة أو مهارة معزولة. ويكفي أن نتأمل في الصيغة المفروضة لإعداد مخططات الدروس لنكتشف هذا الارتباك المنهجي. إذ يُطلب من المدرّس أن يصوغ “هدف الحصة” وفق النمط التقليدي: “يكون المتعلم قادرًا على تحويل جملة مباشرة إلى جملة غير مباشرة”، أو “يتمكن المتعلم من حلّ مسألة باستعمال القسمة”. وهي أهداف تنتمي بوضوح إلى المدرسة السلوكية التي ترى التعلّم استجابة لمنبّه، وتقيّمه وفق مدى مطابقة السلوك للهدف المحدد سلفًا.
غير أن المقاربة بالكفايات، كما هي متعارف عليها في الأدبيات البيداغوجية الحديثة، تتجاوز هذا التصوّر الاختزالي. فهي تقوم على بناء معرفة وظيفية قابلة للتوظيف في سياقات حقيقية ومعقدة، ولا تختزل التعلم في إنجاز مهمة بسيطة، بل تتطلب من المتعلم تعبئة معارف متعددة، واستخدام أدوات ذهنية متنوعة لحلّ وضعية مشكِلة ترتبط بالحياة الواقعية.
ولنأخذ مثالًا من برنامج اللغة الفرنسية في السنة السادسة من التعليم الابتدائي: في باب التعبير الكتابي، يُفترض – بحسب المنطق الكفائي – أن يُطلب من المتعلم إنتاج نصّ يحكي فيه عن تجربة عائلية قريبة، موظّفًا أدوات الزمن الماضي، عناصر الوصف، وتسلسل الأحداث. هذا التمرين يفترض منه تعبئة معارف صرفية (تصريف الأفعال)، ونحوية (بنية الجملة)، ومعجمية (ثراء اللغة)، إلى جانب مهارات التفكير (تنظيم الأحداث، الانتقاء، التدرّج)، وهو ما يعبّر عن كفاية مركّبة. لكن في الممارسة، غالبًا ما يُختزل النشاط إلى هدف ضيّق، مثل “تصريف أفعال المجموعة الأولى في الماضي المركّب”، أو “استخدام أدوات الوصل”، ويُقيَّم المتعلم وفق معيار شكلي يختبر جزئية معزولة، دون أن يُمنح فرصة دمج معارفه في إنتاج ذي معنى.
هذا الانزياح من الكفاية إلى الهدف، ومن التعلّم المركّب إلى التعلّم السلوكي، لا يُعبّر عن جهل فردي من المدرّسين، بل عن غياب سياسة تربوية واضحة تُوائم بين الخطاب والممارسة، وتوفّر أدوات تطبيقية تنسجم مع روح الكفايات. فالتكوين الأساسي للمدرّسين في معاهد التربية والتكوين لا يُعنى، في أغلب الأحيان، بتفكيك هذه المقاربات أو تدريبهم فعليًا على الاشتغال بالوضعيات المركّبة، بل يُقدَّم لهم ما يُشبه “الكفايات الورقية”، أي نظرية دون ترجمة عملية، مما يتركهم في حيرة أمام وثائق توجيهية غير منسجمة مع واقع الفصل الدراسي.
وتتعقّد الأزمة حين ننظر إلى وثائق التقييم، إذ تُضبط الشبكات وفق معايير كمية وسطحية، وتُطلب من المدرّس اختبارات قصيرة وسريعة، لا تسمح بتقييم مدى قدرة المتعلم على توظيف مكتسباته في وضعية جديدة، ولا تمنح فسحة للإبداع أو المبادرة. بل إن أغلب “أهداف الحصص” – كما تُصاغ في الواقع – تُشبه أوامر تقنية يجب على المتعلم تنفيذها، لا دعوات لاكتشاف أو بناء معرفة. على سبيل المثال، يُطلب في الرياضيات أن “يحلّ المتعلم مسألة باستعمال خاصية الزوايا”، لكن دون أن تُطرح المسألة في سياق حقيقي أو أن يُطلب منه اختيار الاستراتيجية الأنسب، وهو ما يُفقد الكفاية معناها الأساسي: القدرة على توظيف المعرفة في وضعية معقّدة.
إن هذه الازدواجية المنهجية ليست مجرد خلل تقني، بل هي مأزق بنيوي يعكس غياب تصور موحد ومتكامل لهوية المدرسة التونسية. فإلى متى سنواصل تحميل المتعلمين والمدرّسين مسؤولية فشل نظام لم يمنحهم الأدوات الحقيقية للنجاح؟ وهل يُعقل أن نُحاسب التلميذ على عدم “إتقان الكفايات”، ونحن ندرّسه بأهداف سلوكية ضيقة تُجزّئ المعرفة وتقتل المعنى؟
إنّ الإصلاح الحقيقي يبدأ بالجرأة على الاعتراف بأننا لم نغادر المقاربة بالأهداف قط، وأنّ ما نعلنه من اعتماد للمقاربة بالكفايات ليس إلا تزيينًا للخطاب التربوي، في حين بقيت الممارسة رهينة المقولات القديمة ذاتها. فإلى متى سنواصل هذا الانفصام التربوي، ونحن نحمّل المتعلم مسؤولية أزمة لا يد له فيها؟

التقييم: أداة للقياس أم عقبة أمام التعلم؟
في أصلها الفلسفي والبيداغوجي، تُعدّ عملية التقييم لحظة بيداغوجية بنائية بامتياز، تهدف إلى تحسين التعلم، دعم المتعلمين، وكشف مساراتهم النمائية والفكرية قصد تصويبها وتطويرها. وقد جاءت المقاربة بالكفايات – التي تبنّاها النظام التربوي التونسي رسميًا منذ إصلاح 2002 – محمّلة بهذا التصوّر التجديدي للتقييم، حيث لم يعد يُنظر إليه كغاية في حدّ ذاته، بل كوسيلة لفهم سيرورة التعلم، وتمكين المتعلم من الوعي بتقدمه أو تعثّره، وبالتالي تفعيل مسؤولية ذاتية في مساره الدراسي.
إلا أنّ الواقع التربوي في تونس يكشف عن مفارقة صارخة بين الخطاب والممارسة. فقد ظلّ التقييم – في غالبه – محصورًا في بُعده الإجرائي الكلاسيكي، قائمًا على اختبارات قياسية، نمطية، تُسند فيها الأعداد لا لتعبّر عن درجة التملّك الحقيقي للكفاية، بل لتصنّف المتعلمين وفق نتائج عددية، غالبًا ما تكون انعكاسًا للذاكرة القصيرة أكثر منها للفهم العميق أو القدرة على التوظيف.
ولنأخذ مثالًا من شبكات التقييم المعتمدة في مادة الإنتاج الكتابي بالمرحلة الابتدائية، خاصة في السنة الرابعة أو الخامسة. نجد أن الشبكة ترتكز غالبًا على ثلاثة محاور: الملاءمة، التنظيم، وسلامة اللغة. غير أن هذه المحاور تُقدَّم في شكل معايير عامة، غامضة، لا تشرح للمُدرّس – ولا للمتعلّم – ما يُنتظر بالضبط. فالملاءمة، على سبيل المثال، لا توضّح ما إذا كانت تعني صلة الموضوع بالتعليمة، أو درجة الإقناع، أو الإبداع في الطرح. أما “التنظيم”، فهل المقصود به التدرّج المنطقي للأفكار؟ أم تنويع الروابط؟ أم وضوح البنية العامة؟ هذا الغموض يجعل من التقييم أداة ذاتية، تُخضع المتعلم لسلطة المدرّس وتقديره، لا لمعايير موضوعية شفافة ومعلنة مسبقًا.
يترتب عن هذا الوضع أن يحصل متعلّم على عدد جيد، رغم أن إنتاجه يفتقر إلى مقوّمات التعبير السليم، كالتسلسل المنطقي أو تنويع الجمل أو دقّة المفردات، فقط لأنه “لم يرتكب أخطاء لغوية جسيمة”، أو لأنه “أتمّ المطلوب في الوقت المحدد”. بينما يُحرم متعلّم آخر من عدد منصف، فقط لأن إنتاجه لا يطابق النموذج الذي يحتفظ به المدرّس في ذهنه، أو لأنه عبّر بأسلوب مختلف عمّا أُنجز في القسم.
ولا تتوقف أزمة التقييم عند الغموض، بل تتعمّق مع غياب البعد التكويني. فالمقاربة بالكفايات تفترض أن التقييم يجب أن يكون مستمرًا، مرنًا، ومبنِيًا على ملاحظات متكرّرة لسلوك المتعلم في وضعيّات متنوّعة. بمعنى أن المتعلم يُقيَّم خلال إنجازه المهام، في تفاعله مع زملائه، في مدى تطوّر استراتيجياته، وحتى في قدرته على تصحيح أخطائه. لكن الواقع يُظهر أن أغلب التقييمات تنحصر في مناسبات محدودة: فروض تأليفية وفجئية، تتطلب إنجازًا سريعًا ومطابقة لنموذج مسبق، دون أن تتيح للمتعلّم هامشًا للخطأ أو لإعادة المحاولة.
وقد زاد اعتماد نظام المعدلات والتراتيب من هذا التوجّه الكمي للتقييم، حيث أصبح الهدف من التعلّم ليس بناء الكفاية أو تعميق الفهم، بل الحصول على عدد جيد. وبهذا، تحوّل التقييم إلى سلطة ضاغطة، يُستخدم أحيانًا لإثبات فشل المتعلم بدل دعمه. والنتيجة أن العديد من المتعلمين – خاصة في الفصول الدراسية التي تتسم بتفاوت كبير في المستوى – يشعرون بالإقصاء وعدم الفهم، وتُسجّل حالات النفور من المدرسة بسبب الشعور بالعجز أو الخوف من العقوبة الرمزية التي يمثّلها العدد الضعيف.
ولم تسلم مواد مثل الرياضيات أو القراءة من هذا التوجّه. ففي تقييم فهم المقروء، يُطلب من المتعلم أحيانًا استخراج أفكار أو إجابة عن أسئلة مباشرة، لكنها لا تُقيس مهارات القراءة الناقدة أو الاستنتاج أو القدرة على تأويل النص. بل يُعطى عدد حسب عدد الإجابات المطابقة، وليس وفق منطق بناء المعنى. والأخطر أن شبكات التقييم الجاهزة تُوزّع أحيانًا بشكل آلي، دون أن تُكيّف حسب الحصة أو نوع النص أو مستوى الفصل الدراسي.
أما في الرياضيات، فنجد اختبارات تقيّم المتعلم على ما يُشبه المهارات التقنية فقط: “احسب”، “حلّ المسألة”، “أوجد المحيط”، لكنها نادرًا ما تختبر قدرته على حل مشكل رياضي واقعي، أو على اختيار الخطة المناسبة، أو على شرح طريقته. مع أن الكفاية – كما تُعرف بيداغوجيًا – هي قدرة على تعبئة الموارد لحلّ وضعية معقّدة، لا إنجاز تمرين جاهز باتباع خطوات محفوظة.
إزاء هذا الواقع، تغيب التغذية الراجعة الفعّالة. فالعدد يُمنح، ثم يُطوى ورق الفرض، دون حوار تربوي بنّاء مع المتعلم، يشرح له نقاط القوة والضعف، ويقترح عليه خطة لتحسين أدائه. فيفقد التقييم معناه التكويني، ويصبح مجرّد حكم نهائي، أشبه بـ”بطاقة حمراء” لا مجال لاستئنافها.
إنّ أزمة التقييم في تونس لا تنفصل عن أزمة المقاربة البيداغوجية عامة. فطالما لم نُفعّل الكفايات كإطار مرجعي حقيقي، وطالما ظللنا نُقيّم المتعلم وفق أهداف سلوكية، فإننا نُرسّخ نموذجًا تربويًا يُكافئ من يحفظ ويُطابق، لا من يفكّر ويُبدع. وتكون المدرسة حينئذ أداة إقصاء، لا فضاء لنموّ الإنسان وبناء قدراته.

غياب البيداغوجيا الفارقية: تهميش المتعثرين وتكريس اللامساواة
من بين المآسي التربوية التي تُلقي بظلالها القاتمة على واقع المدرسة التونسية، تبرز ظاهرة تهميش البيداغوجيا الفارقية، لا بوصفها غيابًا تقنيًا فحسب، بل كعرض مأساوي لفشل السياسات التعليمية في فهم التنوع الطبيعي للمتعلمين وتلبية حاجاتهم المتباينة. ويُعدّ هذا التغييب نتيجة مباشرة للاضطراب المنهجي بين تبنّي المقاربة بالكفايات على مستوى الخطاب، والالتصاق العملي بالمقاربة بالأهداف في بعدها السلوكي الجامد.
تقوم الكفايات، في جوهرها، على مبدأ أن التعلم هو مسار شخصي، تختلف وتيرته من متعلم إلى آخر، وفق قدراته، مكتسباته السابقة، إيقاعه الذهني، وظروفه النفسية والاجتماعية. ومن ثمّ، فإن البيداغوجيا الفارقية ليست ترفًا بيداغوجيًا، بل ضرورة بنيوية لإنجاح المقاربة بالكفايات، إذ تسمح بتكييف الفعل التعليمي وفق هذا التنوع الطبيعي، من خلال تنويع الوسائل، الأهداف، الإيقاعات، والتقويمات.
غير أنّ الواقع في الفصول الدراسية التونسية يُكذّب هذه المبادئ. إذ يُطلب من المدرّس، في إطار تخطيطه اليومي، أن يُدرّس نفس المحتوى، بنفس الطريقة، ولـجميع المتعلمين، بناءً على “هدف للحصة” موحّد، لا يراعي الفروق الفردية، بل يتعامل مع ما يُشبه “متعلمًا مثاليًا” افتراضيًا، يتقن كل المكتسبات السابقة، ويواكب إيقاع الدرس دون صعوبة. وهذا المتعلم – في الحقيقة – لا وجود له إلا على الورق.
لنأخذ مثالًا من دروس القراءة في السنة الثالثة من التعليم الأساسي. يُطلب من المدرّس أن ينجز “حصة فهم المقروء” خلال 45 دقيقة، مع جميع المتعلمين، حول نص معين من الكتاب المدرسي. لكن في الفصل الواحد، نجد متعلمين لم يكتسبوا بعد مهارات التهجئة، وآخرين يعانون من بطء في القراءة، وآخرين يقرؤون بطلاقة نسبية. ومع ذلك، يُفرض على الجميع تحليل النص نفسه، بنفس الأسئلة، وبنفس التمارين، وبنفس المعايير في التقييم. فيُقصى المتعثرون دون أن يُقال ذلك صراحة، ويُشعرون بالعجز والإحباط، فتتكون لديهم علاقة سلبية مع التعلم، يُرافقهم أثرها طوال المسار الدراسي.
كما نجد في مادة الرياضيات، خاصة في دروس “المسائل”، أن المطلوب من المتعلمين هو حل وضعيات رياضية باستعمال عمليات مركّبة. لكن المدرّس مجبر على إنجاز الهدف في حصة واحدة، دون أن يُتاح له الوقت لتقديم دعم مخصص للمتعثرين في أساسيات العمليات، أو بناء استراتيجيات الحل. فيُدفع المدرّس دفعًا إلى تجاهل الفوارق، والاكتفاء بإتمام البرنامج، وكأن جودة التعلّم تُقاس بمدى إنجاز المحتويات لا بمدى تملّكها من قبل المتعلمين.
وتكمن الخطورة في أن هذا الإقصاء ليس مرئيًا دائمًا. فالمتعلم الضعيف لا يُطرد من القسم، لكنه يُقصى ضمنيًا حين لا يُفهم، ولا يُواكَب، ولا يُعالج تعثّره. فتترسخ الفجوة بين المتقدمين والمتأخرين، وتُستنسخ داخل الفصل الدراسي ذاته دوائر خفية من الإقصاء. والأسوأ أن النظام التربوي يُلقي باللوم في نهاية المطاف على المتعلم ذاته، فيُحمّله مسؤولية فشله، دون مساءلة حقيقية للمنظومة التي صمّمت درسًا موحّدًا لمجموعة غير موحّدة في القدرات والإمكانات.
وقد ورد في البرامج الرسمية التونسية دعوات لتطبيق البيداغوجيا الفارقية، خاصة في مدخل “مبادئ التدريس” المصاحب لمجالات التعلم، إلا أن هذه الدعوات تظل حبيسة الصياغة النظرية. فلا يتم توفير الوسائل الكافية، لا من حيث الوقت، ولا من حيث التكوين، ولا من حيث الموارد، لتنزيل هذه المبادئ على أرض الواقع. إذ لا معنى لبيداغوجيا فارقية في أقسام مكتظّة، ببنية تحتية هشة، وزمن مدرسي محكوم بضغط البرامج، دون هامش للمراجعة أو التعديل.
والأدهى أن آليات التقييم المعتمدة لا تتيح التقاط التفاوت بين المتعلمين، بل تعزّز المنطق التوحيدي نفسه، من خلال فروض موحدة، ومعدلات معيارية، وتراتيب تهمل السياق الفردي. فالمتعلم المتعثر لا يُمنح فرصة ثانية، بل يُسجّل عدده، ويُحتسب في معدل عام، ويُحكم عليه بناءً على فشل لحظة، لا على مسار تعلّم قابل للنمو.
إن غياب البيداغوجيا الفارقية في المنظومة التربوية التونسية لا يُقصي المتعثرين فقط، بل ينقض جوهر الكفايات التي تقوم على تمكين كل متعلم من تعبئة قدراته الخاصة، في زمنه الخاص، عبر مسارات تعلم مرنة. ولذلك، فإن أي خطاب عن جودة التعليم يظل ناقصًا، بل موهومًا، ما لم نعيد الاعتبار لمبدأ الفروق الفردية، ونمنح لكل متعلم الحق في تعلم حقيقي، لا في مجرد الحضور داخل فصل دراسي يواصل إنتاج الفشل الجماعي باسم النجاح الكمي.

خاتمة: أيّ مستقبل نريد؟
إنّ ما يُنتج اليوم داخل المؤسسة التربوية التونسية ليس تعليمًا بالكفايات، بل خليط هجين من الممارسات القديمة مغلّفة بمصطلحات حديثة. نحن نشتغل بمنطق الكمّ لا الكيف، نركّز على الإجابة لا على السؤال، نُقيّم الأداء بدل تطوير القدرات، ونُدخِل المتعلمين إلى دوامة من الفشل المقنّع تُدمّر ثقتهم بأنفسهم.
وإذن، فإن السؤال الجوهري الذي ينبغي طرحه بإلحاح هو: ما محلّنا الحقيقي من جودة التعليم؟
إذا كانت الكفايات تعني القدرة على الفعل والفهم والتوظيف، فإننا بعيدون عنها بُعد الممارسة عن النظرية. ما نحتاجه ليس شعارات جديدة، بل ثورة مفاهيمية حقيقية تبدأ بإعادة النظر في البرامج، تكوين المدرسين، أدوات التقييم، وزمن التعلم، وتنتهي بإرساء منظومة تربوية عادلة تُراعي الإنسان في مختلف تجلياته، لا المتعلم الافتراضي المعلّق في دفاتر التخطيط.
المراجع:
مراجع رسمية تونسية
- البرامج الرسمية للتعليم الأساسي والثانوي – وزارة التربية التونسية
تتضمن هذه الصفحة البرامج الرسمية المعتمدة في مختلف المواد والمستويات التعليمية.
🔗 رابط مباشر - الوثيقة البيداغوجية المرجعية – وزارة التربية
وثيقة تأطيرية توضح المبادئ البيداغوجية المعتمدة في التعليم الأساسي.
🔗 تحميل الوثيقة - الوثيقة الإطار لتدريس اللغة العربية في التعليم الأساسي
تقدم هذه الوثيقة الإطار العام لتدريس اللغة العربية في المرحلة الأساسية.
🔗 تحميل الوثيقة - الوثيقة المرجعية في التقييم ودليل إعداد شبكات التقويم – وزارة التربية
دليل عملي لتقويم الكفاءات وتطبيق المقاربة بالكفايات في التقييم.
🔗 تحميل الوثيقة - المركز الوطني البيداغوجي – تونس
يقدم هذا الموقع مجموعة من الكتب والوثائق البيداغوجية الرسمية.
🔗 زيارة الموقع
مراجع نظرية تربوية
- Perrenoud, Philippe.
Construire des compétences dès l’école.
مرجع أساسي في نظرية الكفايات والبيداغوجيا الفارقية.
🔗 رابط الكتاب - Meirieu, Philippe.
L’école, mode d’emploi : des élèves aux savoirs.
يتناول هذا الكتاب دور المتعلم وبناء المعارف داخل المدرسة.
🔗 رابط الكتاب - De Ketele, Jean-Marie.
L’évaluation des acquis des élèves.
مرجع في التقييم التكويني والوظيفي ضمن المقاربة بالكفايات.
🔗 رابط الكتاب
مقالات ودراسات علمية تونسية
- بوترعة، سامي.
“مأزق الكفايات في البرامج التونسية: بين الطموح النظري والاختزال البيداغوجي.”
نُشر في مجلة الحياة التربوية، عدد 81، وزارة التربية، تونس، 2015.
🔗 رابط المقال - جمعة، سنية.
“تحديات تطبيق البيداغوجيا الفارقية في المدرسة التونسية.”
عرض في ندوة البيداغوجيا الفارقية، المعهد العالي للتربية والتكوين المستمر، 2017.
🔗 رابط الدراسة - مركز الدراسات التربوية والبحث في التعليم.
“تقرير حول مدى نجاع تطبيق الكفايات في التعليم الأساسي بتونس.”
منشور داخلي، وزارة التربية، 2018.
🔗 رابط التقرير