Contents
عناق الكتب القديمة: حين يُصبح امتحان السيزيام قصيدة عشق للورق والحرف
في زمن باتت فيه الكتب تفقد دفء اللمسة وتُختزل في شاشات زرقاء باردة، جاءت قطعة الامتحان الوطني للسيزيام 2025 لتُعيد إلى النص المدرسي شيئًا من روحه الضائعة، وتفتح للتلميذ نافذة على الأدب الجميل، لا بوصفه مادّة اختبارية جافة، بل تجربة شعورية حية.
النص المعتمد، المأخوذ من رواية الكاتبة التونسية أمينة زريق، لا يُقرأ كدرس في القراءة فقط، بل يُعاش كلحظة حنين، وتذوق، واستبطان لدفاتر الذاكرة الورقية التي تنبض بالحياة.
نصّ يحتفي بالكتاب ككائن حي
منذ الجملة الأولى، يسحبنا السرد إلى عالم غائبٍ حاضر:
“أشتاق إلى محلي، ما الذي جرى حتى يبدو كل هذا غريبًا؟ لقد أُغلق الباب…”
إنه ليس مجرد وصف، بل انسياب وجدانيّ يُشبه صلاة داخلية يتلوها الراوي على أبواب الذاكرة.
إن الكتب القديمة في هذا النص ليست أشياء مهجورة، بل شخصيات حية، لها “رائحة”، و”تنهيدة”، و”تجاعيد”، و”صمت”. إنها الجدّات الورقيات اللائي ربّين أجيالاً من الحالمين، وكنّ شاهدات على طفولة الحرف.
أدب بأجنحة البلاغة ودفء الطفولة
أبدعت الكاتبة أمينة زريق في تطويع اللغة الفنية بأسلوب شفاف، راقٍ، يجعل القارئ الصغير يُلامس الجمال دون أن يغرق في وعورة التعبير. فالنص يزخر بصور بلاغية جميلة:
“تشقق الورق”، “أرفف نائمة”، “صندوق الحنين”، “البيت يرتدي رائحة الكتب”.
هذه صور تمنح الكلمة جلدًا وروحًا وذاكرة، دون أن تبتعد عن وجدان الطفل أو تجرّه إلى الغموض المرهق.
بل إن الحوار البسيط في نهايته:
– “لست كاتبًا، أنا مجرد قارئ.”
– “لا، أنت تروّج لفكري وكاتب وأديب… بابا.”
يمثل درة الختام، حيث يلتقي الحُبُّ بالحرف، ويُكرّم الأدبُ في حضرة الأبوة.

حين يُحكى الأدب بلغة الأطفال… دون أن يُبَسَّط
ليست البراعة في أن نكتب للأطفال بلغة طفولية ساذجة، بل أن نمنحهم أدبًا راقياً، بلغة سامقة، يفهمونه بالقلب وإن استعصى عليهم حرف منه.
وهذا ما نجحت فيه الكاتبة، فجاء النص جسرًا بين جمالية السرد ورقّة التلقي.
اختيار تربوي جريء… لكنه راقٍ
تحية لفريق إعداد الامتحان الوطني على هذا الاختيار الجمالي النادر. فقد منح التلاميذ لحظة تذوق أدبي راقٍ في زمن تُستبدل فيه النصوص بجداول الضرب، والمعاني بالعلامات.
ونرجو أن تتواصل هذه التجارب الفريدة في امتحاناتنا، حيث لا يكون النص أداة اختبار فقط، بل دعوة لاكتشاف الجمال، والوفاء للورق، والإيمان بقيمة الكلمة.
في الختام
نص “تاريخ الكتب القديمة” ليس مجرد قطعة في امتحان.
إنه احتفال باللغة، ومبايعة للكتاب، ودرس غير مباشر في الوفاء.
أبدعت فيه أمينة زريق، حين كتبت للكبار بلغة تليق بالأطفال… أو كتبت للأطفال بنبض أم تعرف أن الحرف يمكن أن يُربّي، كما يُحبّ.



