اصلاح منظومة التقييم التربوي: من محطات الفرز إلى مسارات النمو

اصلاح منظومة التقييم التربوي: من محطات الفرز إلى مسارات النمو

في سياق مراجعة منظومة التقييم، يتجدّد النقاش حول جدوى ما يُسمّى بـ”المحطات الفاصلة”، تلك اللحظات المصيرية التي تُنصّب فيها الامتحانات معيارًا وحيدًا للحكم على المتعلّم، وتُحوَّل فيها الرحلة التعليمية إلى سباق محكوم بموعد نهائي لا يُؤجَّل. من هذه الزاوية، تُطرح مقترحات لإرساء تقييم إجباري في السنة الرابعة من التعليم الابتدائي، يليه امتحان إشهادي في نهاية المرحلة الابتدائية، ثم اختبار توجيهي في السنة الثالثة من التعليم الثانوي لتحديد مسار الباكالوريا.

لكن، أيّ فلسفة تقف وراء هذا التصوّر؟ وهل يستقيم مشروع إصلاحي في التربية، قائم على التجديد والمرونة، إذا ما ظلّ أسيرًا لآلية تقويمية واحدة، جامدة ومتماثلة؟ أليس التقييم، في جوهره، فعلًا تربويًا يرافق المتعلّم، لا سلطة تُنزل عليه الأحكام؟
في هذا المقال، أقدّم قراءة تحليلية لهذا التصوّر التقليدي، وأبني حُجّتي على رؤية بديلة ترى في التقييم فضاءً للنمو لا للحكم، ومسارًا للتطور لا للحسم.

بين الامتحان والتقييم: خلط وظيفي ومفاهيمي


حين يتحوّل التقييم إلى مرادف للامتحان، تضيع الغاية التربوية ويتحوّل الفعل البيداغوجي إلى آلية تقنين. فالامتحان، في صورته الإجرائية، ليس إلا أداة من أدوات التقييم، لا يُفترض به أن يُلغي غيره من الوسائل: المشاريع، الملاحظة المستمرة، دفاتر التعلّم، ملفات الإنجاز، التقييم الذاتي، والتقييم بالأقران.

غير أن اعتماد محطات فاصلة حاسمة (رابعة ابتدائي – نهاية الابتدائي – ثالثة ثانوي) يُعيد إنتاج هذه النظرة الأحادية، ويحوّل التقييم إلى غاية في حدّ ذاته، لا وسيلة للتقدم. ولعلّ أخطر ما في هذه الرؤية هو أنها تُضفي على الامتحان سلطة معيارية تُغفل السياقات النفسية والاجتماعية والثقافية للمتعلّمين، وتُهمل الفوارق الفردية، فتُقصي حين تُفترض أنها تُقوّم.

التقييم المبكر: ضرورة تربوية أم إقصاء مستتر؟


الدعوة إلى تقييم مبكر في السنة الرابعة ابتدائي تبدو، في ظاهرها، اقتراحًا حريصًا على “تدارك الفجوات” في الكفاءات الأساس (اللغات، الحساب)، لكنها تخفي خلفها منطقًا بيروقراطيًا يُقيس الأداء المدرسي بالمعيار نفسه للجميع، في الوقت نفسه، وبالوسيلة نفسها.

إن البديل الحقيقي لا يكمن في امتحان إضافي، بل في إرساء ثقافة التقييم التشخيصي المستمر، الذي يُمارَس في بيئة آمنة، بعيدة عن الضغط والإجبار، ويُنفَّذ بأدوات مرنة تسمح بالتدارك الفردي، لا الفرز الجماعي. فالتلميذ الذي يتعثّر في الرابعة ابتدائي لا يحتاج إلى حكم معلّق فوق رقبته، بل إلى رعاية مركّزة ومصاحبة تربوية تُعيد بناء ثقته في ذاته وفي قدراته.

في نهاية الابتدائي: التقييم كتتويج أم كأداة غربلة؟


الامتحان الوطني في نهاية المرحلة الابتدائية ظلّ، تاريخيًا، نقطة تقاطع بين البيداغوجيا والإدارة. فإذا اعتُمد كمحطة إشهادية تُقرّر مصير المتعلّم، فقد فشل في تحقيق العدالة. أما إذا اعتُمد كتجميع تقييمي يُثمّن مجهود السنة الدراسية، ويراعي التعدّد في الإنجاز، فهو أداة مفيدة.

من هنا، أدعو إلى اعتماد نموذج تقييم مركّب في هذه المرحلة:

70٪ من المعدّل يُحتسَب من التقييم المستمر والتكويني خلال العام الدراسي.

30٪ فقط من تقييم تجميعي نهائي، يراعي طبيعة المتعلّمين، ويُطوّع لذوي الاحتياجات الخاصة.

بهذا الشكل، يُستعاد التقييم كأداة إنصاف، لا كأداة فرز، ويُحوّل من لحظة إقصاء إلى مساحة تقدير.

التوجيه في الثانوي: المسار لا الاختبار


يقترح بعض الفاعلين إجراء “امتحان توجيهي” في السنة الثالثة من التعليم الثانوي، قبل الدخول إلى الباكالوريا، يحدد بناءً عليه المتعلّم تخصّصه النهائي. وهنا أيضًا، يقع الخلط بين الرغبة في تنظيم المسارات وبين منطق الحسم.

التوجيه، كما أراه، لا يُبنى على اختبار مفاجئ، بل على مسار تدريجي من التكوين والتأطير والتوجيه الشخصي. لا بدّ من تمكين التلميذ من:

التعرّف على كل المواد في السنوات الأولى.

رصد ميوله عبر ملفات الإنجاز ومشاريع البحث.

الحصول على مرافقة فعلية من مستشار توجيه متخصّص.

اختيار تخصّصه بناءً على ملفه، ووعيه بذاته، لا على نقطة واحدة.

وبذلك ننتقل من التوجيه كعقوبة إدارية إلى التوجيه كاختيار واعٍ، نابع من الذات لا مفروض من السلطة.

تقييم اللغات والرياضيات: نحو الإبداع بدل الإخضاع


إن التقييم الحقيقي لا يُقاس فقط في لحظة، بل يُبنى في نوعية المهارات التي نختبرها. لذلك، فإن مراجعة آليات التقييم يجب أن تشمل المحتوى والوظيفة.

في اللغات، لا بد من إيلاء المعجم، والمطالعة، والتعبير الشفوي مكانة محورية.

في الرياضيات، لا بد من الانتقال من “التمرين الصوري” إلى المسائل التطبيقية، والألعاب الذهنية، والمواقف الحياتية التي تخلق المعنى.

نحو عدالة تربوية تُقوّم لا تُقصي


إن الإصلاح التربوي الحقيقي لا يقوم على زيادة عدد الامتحانات، بل على تحرير التقييم من سطوة الامتحان الأحادي النمط. نحن بحاجة إلى تقييم حيّ، مرن، دقيق، يحترم إيقاع المتعلّم، وينمّي لديه مهارات التفكير الذاتي، لا الخوف من الخطأ.

إنني لا أرفض مبدأ “محطات التقييم”، بل أرفض أن تكون تلك المحطات فواصل تعسفية في مسار يفترض أن يكون متصلاً، إنسانيًا، حيويًا.
أدعو إلى أن نُعيد النظر في سؤال التقييم: لا كمتى نُقيّم، بل كيف ولماذا وبأي غاية؟
فما قيمة امتحان يُقصي، إن كان في وسع تقييم راشد أن يُرافق ويُنمّي؟

الأستاذ عماد إيلاهي

مراجع أكاديمية وتقارير دولية

Exit mobile version