من المدرسة التقليدية إلى منظومة التعلم مدى الحياة: نحو رؤية تونسية مستدامة للتعليم في القرن 21

المقدمة

في خضم التحولات العميقة التي يشهدها العالم المعاصر، أصبح مفهوم “التعلّم مدى الحياة” من أبرز الركائز التي تعيد تشكيل التصورات التربوية الحديثة، متجاوزًا الفهم التقليدي للتعليم بوصفه مرحلة زمنية محددة تنتهي بالحصول على شهادة. لقد فرضت التحولات الرقمية المتسارعة، والتغيرات الاقتصادية العميقة، والتحديات القيمية والثقافية، إعادة النظر في الأدوار الكلاسيكية للمدرسة، التي ظلت لعقود حبيسة أنماط تلقينية، ومناهج جامدة، وسيرورات بيداغوجية تُركّز على حفظ المعارف أكثر من بناء الكفايات.

وفي السياق التونسي، تُبرز المؤشرات التربوية والاجتماعية حجم المأزق الذي تعانيه المنظومة التعليمية: معدلات مرتفعة للتسرّب المدرسي، بطالة متفاقمة في صفوف حاملي الشهادات، تهميش للمهارات الحياتية والرقمية، فضلاً عن اتساع الفجوة بين مخرجات التعليم وحاجيات سوق الشغل. أمام هذه التحديات، تبدو المدرسة التونسية في حاجة ماسة إلى إعادة التأسيس، لا من حيث الشكل فقط، بل على مستوى الوظيفة والمقاربة والرؤية.

وعليه، يطرح هذا المقال الإشكالية التالية: كيف يمكن لتونس أن تنتقل من نموذج مدرسي تقليدي قائم على التلقين والانغلاق، إلى منظومة تعلم مدى الحياة تقوم على الإنصاف، والمرونة، والاستدامة المعرفية؟ ويسعى للإجابة عن هذا التساؤل من خلال تحليل مظاهر القصور البنيوي في المنظومة الحالية، واستعراض الأسس النظرية لمفهوم التعلم مدى الحياة، ثم اقتراح مداخل استراتيجية عملية تؤسس لرؤية تربوية وطنية بديلة، منفتحة، ومندمجة في سيرورة التنمية المجتمعية الشاملة.

من المدرسة التقليدية إلى منظومة التعلم مدى الحياة: نحو رؤية تونسية مستدامة للتعليم

I. المدرسة التونسية: تشخيص لنموذج تقليدي مأزوم

1. الخصائص البنيوية للمؤسسة التقليدية

ما تزال المدرسة التونسية، في أغلب مكوّناتها، أسيرة لنموذج تعليمي تقليدي يستند إلى مركزية المعرفة النظرية بوصفها الغاية الأولى والأخيرة من العملية التربوية، متجاهلةً بذلك أبعادًا أساسية للتكوين الإنساني المتكامل. فهي تُكرّس نسقًا أحاديًا في التعلم، سواء على مستوى الزمن – حيث يُختزل التعلم في مرحلة عمرية محصورة – أو على مستوى الفضاء – حيث يتمركز النشاط التربوي داخل الفصل الدراسي، منغلقًا عن الفضاءات المجتمعية الأوسع. كما يغلب على هذا النموذج منطق التراكم الكمي للمضامين، من خلال تركيزه على التحصيل المعرفي المجرد، عوض تنمية المهارات العملية، والقدرات التكوينية، والمواقف القيمية التي تمكّن المتعلم من التفاعل مع محيطه بفعالية.

2. مظاهر الأزمة في السياق التونسي

لقد أفضى هذا البناء التقليدي للمدرسة إلى جملة من الاختلالات البنيوية العميقة، التي لم تعد مجرّد مظاهر عرضية، بل تحوّلت إلى مكونات هيكلية تُهدّد استدامة الفعل التربوي ونجاعته. ففي السياق التونسي، تتجلى هذه الأزمة في مستويات متعددة، تتفاعل فيما بينها على نحو يعمّق من هشاشة المنظومة التربوية ويُقلّص من قدرتها على مواكبة التحولات المتسارعة في المحيطين الوطني والعالمي.

● أولًا: تفاقم الانقطاع المدرسي

تُظهر البيانات الرسمية والمؤشرات التربوية تصاعدًا مطّردًا في نسب الانقطاع المدرسي، وهو ما يُعدّ أحد أبرز مظاهر فشل المدرسة في أداء وظيفتها الاجتماعية والاقتصادية. فبدل أن تكون المدرسة فضاءً حاضنًا للمسارات المتنوعة للمتعلمين، أصبحت في كثير من الحالات فضاءً طارداً، يفتقر إلى المرونة والانفتاح على الخصوصيات الفردية والبيئية للمتعلمين. ويرتبط هذا الانقطاع بعوامل متعددة، من بينها ضيق الأفق البيداغوجي، وغياب صيغ بديلة للتعليم، وضعف الإرشاد التربوي، ما يُفضي في المحصلة إلى شعور جزء واسع من المتعلمين بالاغتراب داخل الفصل الدراسي، ومن ثَمّ الانسحاب المبكر من المسار التعليمي.

● ثانيًا: ضعف قابلية التشغيل وفجوة المهارات

على المستوى الاقتصادي، تكشف مؤشرات البطالة المرتفعة في صفوف خريجي الجامعات والمؤسسات التكوينية عن فشل المنظومة التعليمية في إعداد المتعلمين لمتطلبات سوق الشغل، وهو ما يُترجم في ما يُعرف بـ”فجوة المهارات”. فالبرامج التعليمية لا تزال، في غالبها، تركّز على المحتوى المعرفي المجرد، دون تطوير الكفايات العملية، والمهارات الحياتية، والقدرة على التعلّم الذاتي، والابتكار، والعمل الجماعي، وهي عناصر أساسية في الاقتصاد الرقمي والمعرفي المعاصر. وينتج عن ذلك عدم توافق بين مخرجات التعليم وحاجيات الاقتصاد الوطني، مما يُعمّق الإحباط لدى الشباب ويُهدد التماسك الاجتماعي.

● ثالثًا: تعثر مسارات التجديد البيداغوجي

ورغم ما تمّ الإعلان عنه من مشاريع لإصلاح البرامج وتحديث المقاربات، فإن محاولات التجديد البيداغوجي ما تزال محدودة في المدى والتأثير، وغالبًا ما تأخذ طابعًا تقنيًا جزئيًا لا يطال البنية العميقة للعملية التربوية. ويُعزى هذا الفشل إلى وجود مقاومة ثقافية ومؤسسية للتغيير، تتجلى في التمسك الصارم بأنماط التدريس التقليدية، ونظام التقييم القائم على الاستظهار، وأدوار المعلمين بوصفهم ناقلين للمعرفة لا ميسّرين لها. ويُضاف إلى ذلك غياب التكوين المستمر الفعّال للمربين، مما يُفضي إلى إعادة إنتاج نفس النماذج التعليمية المتجاوزة.

● رابعًا: غياب ثقافة التعلم الذاتي والمستقل

من أبرز المظاهر المُقلقة كذلك، هو الغياب شبه التام لثقافة التكوين الذاتي والتعلّم مدى الحياة داخل الفضاءات التربوية. فلا تزال المدرسة التونسية تؤطّر المتعلم ضمن علاقة عمودية تقوم على التلقين والتلقي، وتُقيّده بإيقاع جماعي لا يُراعي الفروق الفردية، ولا يفسح المجال لبناء مشروع تعلّمي شخصي. هذا النمط من التعليم لا يُنمّي الحس النقدي، ولا يُشجّع على الاستقلالية المعرفية، مما يُضعف قدرة المتعلم على التأقلم مع التحولات، ويُبقيه في تبعية مستمرة للمدرّس أو للمؤسسة، خلافًا لما تقتضيه روح التعلم مدى الحياة.

II. الإطار النظري لمفهوم التعلّم مدى الحياة

1. تعريف المفهوم وأبعاده

يُعدّ مفهوم “التعلّم مدى الحياة” من المفاهيم التربوية المفصلية التي أعادت رسم حدود المدرسة التقليدية، موسّعةً فضاء التعلم خارج جدران الفصل الدراسي وخارج إكراهات السن والزمن المدرسي المحدود. فالتعلّم مدى الحياة هو سيرورة مستمرة، شاملة، ومتجددة، تتيح للفرد تنمية معارفه ومهاراته وكفاياته على امتداد العمر، في مختلف السياقات الرسمية وغير الرسمية، والمؤسساتية وغير المؤسساتية.

ويمتد هذا المفهوم ليشمل أبعادًا متداخلة: معرفية، من خلال اكتساب محتويات جديدة؛ ووظيفية، عبر تطوير المهارات المهنية والاجتماعية؛ ووجدانية، بتعزيز الثقة بالنفس، والقدرة على التكيف، والانفتاح على الآخر. وبذلك، فهو يتجاوز الرؤية النمطية للتعليم بوصفه مرحلة عمرية مرتبطة بسنّ التمدرس، ليُصبح حقًا إنسانيًا دائمًا، ومسارًا تكوينيًا متجددًا.

2. المرجعيات الدولية والتجارب المقارنة

يحظى التعلّم مدى الحياة بمكانة محورية في الأدبيات التربوية الدولية، لا سيّما في تقارير اليونسكو التي أكدت، منذ “تقرير ديلور” (1996) إلى “أجندة 2030 للتنمية المستدامة”، ضرورة الانتقال من منطق التعلّم لامتحان أو شهادة، إلى التعلّم من أجل الحياة، ومن أجل بناء مجتمعات قائمة على المعرفة، والمواطنة، والتكافؤ. كما تبنّت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) وبلدان شمال أوروبا، خصوصًا فنلندا والنرويج، هذا التوجّه في سياساتها التعليمية، عبر برامج وطنية تُمكّن كل فرد من استئناف تعلّمه في أي مرحلة من عمره، ومن خلال أنماط متنوعة تشمل التعلم الرقمي، التكوين المهني المستمر، والاعتراف بالكفايات المكتسبة خارج التعليم النظامي.

3. القيم والمبادئ التي يستند إليها

ينبني مفهوم التعلّم مدى الحياة على جملة من القيم والمبادئ التي تُعيد ترتيب أولويات الفعل التربوي، في مقدّمتها الإنصاف، الذي يضمن الحق في التعلّم للجميع دون تمييز، والمرونة، التي تسمح بتكييف المسارات التعلمية مع الحاجات الفردية والمجتمعية، والتمكين، الذي يُحوّل المتعلّم من متلقّ سلبي إلى فاعل في بناء مساره التكويني. كما يركّز على التعلّم الذاتي والمفتوح بوصفهما مسارين أساسين للاستقلالية المعرفية، مستفيدًا من الثورة الرقمية ووفرة الموارد التعليمية المفتوحة (OER).

وبذلك، لا يُعدّ التعلّم مدى الحياة مجرّد بديل تقني لنموذج المدرسة التقليدية، بل هو رؤية فلسفية وتربوية متكاملة تُؤسّس لنموذج إنساني جديد في التعلم، قوامه الحرية، والاستمرارية، والانخراط النشط في المجتمع والمعرفة.

III. مداخل استراتيجية نحو الانتقال إلى منظومة تعلّم مدى الحياة في تونس

إنّ الانتقال من النموذج المدرسي التقليدي إلى منظومة تعلّم مدى الحياة في تونس يقتضي اعتماد رؤية إصلاحية متعددة الأبعاد، تستند إلى مداخل متكاملة تشمل البنية المؤسسية، المقاربات البيداغوجية، تنويع فرص التعلّم، إعادة تأهيل الفاعلين التربويين، وترسيخ آليات الحوكمة والتنسيق.

1. إصلاح البنية المؤسسية والفكرية للمدرسة

إن إصلاح المنظومة التربوية لا يمكن أن يتحقّق من دون إعادة تأصيل جذرية لوظيفة المدرسة ومكانتها في المجتمع. فالمؤسسة التربوية لم تعُد قادرة، في شكلها التقليدي المغلق، على الاستجابة لتحديات القرن الحادي والعشرين، حيث التحولات الرقمية، والتغيرات الاجتماعية، وتطور أنماط المعرفة، تُحتم تجاوز النمط الصناعي للتعليم نحو نماذج أكثر انفتاحًا ومرونة. من هذا المنطلق، لا بد من إعادة تصوّر المدرسة كمركز تعلم دائم، متعدد الأبعاد والوظائف، يُرافق المتعلّم في مساره الحياتي لا في مرحلته العمرية فقط.

2. تجديد البرامج والمقاربات البيداغوجية

إنّ التحوّل المنشود نحو منظومة تعلم مدى الحياة لا يمكن أن يُختزل في إعادة هيكلة المؤسّسة التربوية فقط، بل يستدعي مراجعة جذرية للمضامين التعليمية والمقاربات البيداغوجية التي تؤطّر الفعل التربوي داخل الفصل الدراسي وخارجه. فالمعارف لم تعُد وحدها كافية في عالم سريع التحوّل، بل أصبح النجاح التعلمي رهين القدرة على التكيّف، التفكير، التعلّم المستمر، والعمل في سياقات متغيّرة. ومن ثَمّ، تقتضي هذه المرحلة التحول من التعليم المتمركز حول “البرنامج” إلى تعليم متمركز حول “المتعلم”، من التدريس إلى التعلّم، ومن حفظ المحتويات إلى بناء الكفايات.

3. تنويع صيغ التعلّم ومصادره

لتحقيق تعلّم مدى الحياة، لا بدّ من توسيع مجالات التعلّم خارج الفصل الدراسي، عبر:

4. التمكين المهني والاجتماعي للمربين

المدرّس هو محور التحوّل المنشود، ومن ثمّ، فإن تمكينه ماديًا ومعنويًا ومهنيًا شرطٌ أساسيّ لنجاح الإصلاح، عبر:

5. الحوكمة والتنسيق بين الفاعلين

لا يمكن لسياسة وطنية للتعلّم مدى الحياة أن تُبنى في ظل التشتت المؤسساتي، بل عبر:

إحداث مرصد وطني للتعلّم مدى الحياة يُعنى برصد المؤشرات، متابعة السياسات، وتقييم أثر البرامج والمشاريع.

وضع إطار وطني شامل للتعلّم مدى الحياة تشارك فيه وزارات التربية، التشغيل، التكوين المهني، الثقافة، الشباب، وغيرها من الأطراف المعنية.

بناء شراكات استراتيجية مع المجتمع المدني، القطاع الخاص، الجامعات، والمنظمات الدولية لتوفير موارد وخبرات متنوعة.

IV. آفاق وتحديات الانتقال إلى منظومة تعلّم مدى الحياة

يمثل التوجّه نحو منظومة تعلّم مدى الحياة خيارًا استراتيجيًا لبناء مجتمع المعرفة، وتحقيق تنمية شاملة ومستدامة. غير أنّ هذا التحوّل، وإن كان حيويًا وواعدًا، يظلّ محفوفًا بتحديات واقعية تستدعي مقاربات جريئة ومتدرجة.

1. مكاسب محتملة

يمثّل تبني رؤية شاملة للتعلّم مدى الحياة فرصة فريدة لتحقيق مكاسب على أكثر من صعيد:

2. التحديات الواقعية

رغم جاذبية الأفق الذي يتيحه التعلّم مدى الحياة، فإنّ الواقع التونسي يضع هذا المشروع أمام عدة عوائق بنيوية وبيداغوجية:

الخاتمة

في ضوء ما تمّ عرضه، يتضح جليًا أن تجاوز منطق “إصلاح القطاع” التقليدي لا يكفي، بل يقتضي الأمر إعادة صياغة المشروع التعليمي برمته، بوصفه مشروعًا مجتمعيًا متكاملاً يستجيب للتحولات العالمية والمتطلبات الوطنية الراهنة.

إنّ اعتماد منظومة التعلم مدى الحياة ليس خيارًا تكميليًا، بل هو خيار استراتيجي حتمي يفرضه واقع العولمة، التطورات الرقمية، والتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه تونس. فالتعلم لم يعد محصورًا في سنّ محددة أو في فضاء الفصل الدراسي، بل صار ضرورة دائمة تواكب المتعلمين في كل مراحل حياتهم.

ومن هنا، ينبثق وجوب صياغة عقد تربوي وطني جديد يعيد تحديد وظيفة المدرسة وموقعها في المجتمع، ويكرّس حق كل فرد في التعلّم المستمر والمتجدد مدى الحياة، معزّزًا بذلك التنمية الشاملة، والاندماج الاجتماعي، والفعالية الاقتصادية.

إنّ تحقيق هذا الهدف يتطلب إرادة سياسية صلبة، شراكة مجتمعية واسعة، واستراتيجيات بيداغوجية متجددة، تؤسس لمستقبل تعليمي مستدام يُثمر مجتمعًا حيويًا ومتعلّمًا قادرًا على مواجهة تحديات الحاضر وصناعة فرص الغد.

المراجع:

مقال من المدرسة التقليدية إلى منظومة التعلم مدى الحياة: نحو رؤية تونسية مستدامة للتعليم

Exit mobile version